العفيدلي بين الشعر الفصيح والنبطي.. حكاية إبداع متوقدة
تشرين- راوية زاهر:
(أمويةٌ
غابت نساء الأرض حين حضورها
ومن البهاء كأنهنّ رجال
أموية الأعراق بنت رسالة
للعالمين مسيرة ونضال
وقفت بوجه الكون تشهر سيفها
والفارسات بعشقهن خبال
نفضت غبار المنكبين، وأعلنت
أن الحياة مع الخنوع محال
وكطائر الفينيق قامت تنتفض
لتعلّم الأجيال ما”استقلالُ”.)
كلمات على وقع حدو بحور الأنفة والكبرياء طالعتنا من ديوان شاعرٍ وزّع شاعريته بين النبطي والفصحى،
همس لنا من علياء أشرعته على أوزان الخليل وذلك في كتابه “أشرعة الهمس” الصّادر عن دار العراب في دمشق للشاعر عبد الكريم العفيدلي.
فبثلاثين نصاً موزوناً مقفى تنوّعت فيها الأغراض وتلونت فيها القيم، وسادت مشاعر الحزن الغارقة في الشتات والتغني بوطن القريحة، فحضرت دمشق في وجدان هذا الشاعر الفراتي كجزءٍ من التكوين، بكى جراحها وتكالُبِ أمم الظلام على تيجانها، حكى ملاحمها وعنون نصه بملحمة الفيحاء فقال :
-ماللأعارب لا ثلجٌ ولا نارُ
تجدد الخطب لا يحدو بهم ثار
-عينٌ تنام، وعينٌ بات يقلقها
فعل الطغاة وللطغيان أطوارُ
حضرت المدائن شامخة رغم نكبتها في شعر العفيدلي..
فالرقة مسقط رأس الشاعر، حزينة يجلببها الحزن ويحيط بأهلها الشتات، فخصها الشاعر بفيضٍ نظيمه،
و”طفلة العيد” حكاية اغتراب كاملة غرزت أظفار الحزن في تفاصيلَ عائدةً إلى العيد في الرقة ولكن الأهل على بوابات المنافي بلا عيد ولا وطن ولا عنوان، فقال في قصيدته طفلة العيد :
يا طفلة العيد إن العيد بالوطن
عند الفرات بلا همٍّ ولا حزن
حيثُ الأحبة والأصحاب كلّهم
تبادلوا أمنيات العيد بالعلن
اليومُ جاء بلا معنى يروق لنا
ما قيمة العيد بالأحزان مقترن
أين الطفولة والأثواب تلبسها
منذ المساء كأطيارٍ على فنن
بالأمس كانوا وكان العيد رؤيتهم
واليوم هم بين نزف الظّرف والكفن
أضحى غريباً فلا سقفٌ يلوذ به
وأين يلجأ مطرودٌ من الزّمن؟
عن اللغة
يحاول العفيدلي كما ورد على لسان الشاعر والإعلامي جمال الجيش أن يمسك بتلابيب اللغة الجميلة كي لا يهرب منه المعنى، وكي تبقى وفيةً لروحه التواقة إلى الجمال، يحاولها تارة بمحكي بداوتها شعراً نبطياً، يوقظ في دواخلنا كل مآثر زمن عربي تقلبت عليه الأزمان، وأخرى بفصحى تمتلك من الجزالة الكثير على تنوّع موضوعاته بتنوع خلجات ولواعج صدره.. فحضرت تقنية التناص بشدة في نصوص الشاعر لتحملنا إلى عوالم أخرى تخدم مراد الشاعر ومبتغاه من قبيل:
ليسوا الحمائل فيما يعملون به
كأنهم من بني حمّالة الحطب
فالمعنى محوّل إلى امرأة ذكرت بالقرآن باسم حمالة الحطب وهي زوج أبي لهب ليضفي على نفسه مصداقية الواقع المتأسي..
بعض الجروح لها في الغي فلسفة
ومنطق الرشد لم يدركه جساس..
وكلنا يعرف حجم التناص وجماله في هذا البيت، ف(جساس) الأحمق سقط بكليته الحمقاء وانطبق فعله على أشباهه بالرقة والتي كانت نتائج الحمق كارثية في الموقعين.. كذلك استخدم الشاعر لغة المجاز حاضرة بصورها وموسيقاها الداخلية والخارجية وتشبيهاتها وكناياتها وتضادها الحاضر بقوة.. ليوضح المعنى ويعمل العقل في المتناقضات، ويعبّر عن الحالة النفسية المتأزمة في تشابك علائقها مع المحيط البيئي: (باح الصمت، خط دروب اليأس والأمل، يجمع شتاتي، أعيش لغربتي وأموت فيها)..
و(يا بنت عباس) استعارة تصريحية، والمقصود بالرقة بنت عباس، حذف المشبه وصرح بذكر المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية كما استخدم الخبر والإنشاء لغاية التوضيح، (الذكريات مشانق) بليغ..(القصيدة مهرة) تشبيه بليغ، وظيفة هذه الصورة الشرح والتوضيح لغاية إقناع المتلقي.. ومن أمثلة الإنشاء : (انظر لمن ساد في الدنيا بسطوته
واخضع النّاس ما شطت به الفكر.) إنشاء نوعه أمر.
(أين القلاع التي قامت لتعصمه؟) إنشاء نوعه استفهام.. أما الخبر: فالجيل أصبح بالمهبّ ضحيةً.. خبر ابتدائي.. وعلاوة على الحضور السخي للموسيقا الداخلية حضر التصريع بكامل جماليته ليعطي جرساً موسيقياً للنص الذي وجد فيه..
(إنّ التواصل حملة شعواء
عاثت بنا وبيوتنا وهناء.)
فالعفيدلي كان أشبه بالملك الضليل إذ وقف كإياه على أطلال مملكته يبحث عن مجد أبيه الضائع وها هو العفيدلي يبكي رقته التي أعادها خفافيش الدجى إلى عصور الحجر والسبي. فقال :
بالأمس كانت تحت جنان الله جارية
واليوم تحت ركام الحقد والحسد
أعنة الخوف سارت نحو نهضتها
لكي تعود لعصر السبي والوأد.
عن النبطي
وأمام شاعر حبانا كل شاعريته في (أشرعة الهمس) يطل بشعره النبطي حاملاً لواء بداوته، متفوّقاً كما هناك، وقد تربى في مجالس أهله على هذا اللون ليثبت أنه لون يضاهي جمال الفصحى ولا يزاحمه أو يتعالى عليه، فكان منتجه النبطي الغزير بـ (أبو هاته)، والصادر كذلك عن دار العراب في دمشق..
و(أبو هاته) عنوان توظيفي كما عبّر الشاعر في مقدمته يحاكي انقلاب الصورة بمقارنة بين زمنين، زمن (أبو خوذة) وهو لقب للشيخ عبد الكريم الجربا المعروف بكرمه الفطري وسخائه، وبين زمن انتهى به هذا الكرم العفوي واستبدلت به (خوذة) بـ (هاته). فتوظيف العنوان يحفظ لهذا الزمن القبلي مكانته، ويذكر الأجيال به ويعرف بالصفات العربية النبيلة التي يجب أن يتحلى بها الرجل العربي في أسوأ الظروف،
فالشعر النبطي من الفنون الأدبية الشعبية، وهو نوع من الشعر يخاطب به الشاعر عامة الناس، يستخدم اللغة العامية بدل الفصحى، ويستخدم أصول الشعر العربي الفصيح.. و(أبو هاته) مجموعة شعرية نبطية، أتحفنا العفيدلي فيها بسبعة وأربعين نصاً نبطياً حضرت معه مختلف أغراض الشعر فتراه وجدانياً ، ووطنياً، قومياً وإنسانياً.. كما أفرد للحب والمحبوبة الكثير من القصائد، وأنكر في حبّ الوطن اللون الرمادي في وجه الخريطة فقال :
ما تربينا على المبدا ف ساكن
بالوطن ما ينفع اللون الرمادي
لو حسبناها على يمكن ولكن
ضاعت الهقوات واخلفنا السواقي.
ولابدّ من الوقوف على القصيدة النبطية التي حملت بشكل تقليدي عنوان الكتاب (أبو هاته):
يا صاحبي البس الخوذة
افطن لوقتك وغصاته
الكلب لا قلت له عوذه
ما نقّط الضيف بسكاته
عوايد الطيب منبوذة
غليص عوّم بعاداته
هذا أبو البشت باللوذة
والهيت يعرض فرنكاته
هو ماخذ دروس من بوذة
ويزيّن ربعه بسجاته
أقفى زمانك يابو خوذه
وجانا زمانك ياأبو هاته.
وعلى سجيتها، وبذيها البدوي، وصلت مدونة (أبو هاته) بلهجة الرقة، بمواضيعها القائمة على النقد الاجتماعي والحكمة والوطنية وبشيءٍ من الغزل كامتداد لـ (مصور العشا)، بالغرض والمضمون. ذاته.