الراحلة «ليلى نصير».. وحكايتها مع «لؤي كيالي» واختيارها العُزلة حتى النهاية
تشرين – سامر الشغري:
لحقت أمس الفنانة التشكيليّة ليلى نصير برفيقها وقسيم رحلتها في عالم التشكيل الراحل لؤي كيالي، لتقيم حيث يقيم، وكأني بهذه التشكيلية التي عاشت في عزلة طويلة بعد رحيل كيالي، فاض بها الحزن والغربة وأخذاها إلى عند الفنان الذي كان عرّابها وصديقها وشريكها في الرؤى الجمالية في آنٍ معاً.
ثمة عوامل كثيرة جمعت بين لؤي وليلى، فهما ينتميان لجيلٍ واحد تمرد على أعراف مجتمع بأسره، دفعتهما موهبتهما، وهما طفلان، وتعلقهما بالريشة والسطح الأبيض إلى فضاء الرسم، فنالا منحة خارجية لدراسة التشكيل ، منحة الأول في إيطاليا والثانية إلى مصر؛ إذ لم تكن في بلدنا وقتها أكاديمية للفنون، وانتصرا في أعمالهما للضعفاء وللمهمّشين والمسحوقين، وذلك في إطارٍ من التعبيرية العالية.
وكانت نزعة التمرد عند ليلى التي جعلتها، وهي شابة كما كانت تقول، تصدم المجتمع السوري المحافظ، فترتاد المقاهي وترسم الوجوه، وتجلس على الأرصفة، هي التي قادتها لتكوّن علاقة فنية مع كيالي، ارتبط فيها الهم الشخصي بالوطني بالفني، فالروح القلقة والنزعة الحداثية والميل للتجريب، والتأمل في ظواهر الحياة والموت والزهد بعالم الأضواء وعوالم الأرستقراط والاتجاه الرسمي والأكاديمي في الفن.. كلها كانت قواسم مشتركة بين الاثنين، إذ عزّزت شراكتهما الفنية وصداقتهما الشخصية.
وكان لتأثرهما بالقضية الفلسطينية وما طال شعبها من جراء الاحتلال من تهجير وتشريد وقتل وانعكاس ذلك كله على فنهما الطابع الذي سيعطي فنهما أسلوب المدرسة الواحدة على صعيد المضمون والشكل، مع النظر إلى أن ليلى تميزت عن لؤي في تأثرها بالفن المصري الذي تعرفت عليه عن كثب خلال دراستها في القاهرة.. ثم إن ليلى لم تكتف بعالم السطح الأبيض، فقد قدمت عدة أعمال فنية زاوجت فيها بين أسلوب النحت السوري القديم ونظيره المصري، في حين ظل لؤي وفياً للريشة، ولم يجرب غيرها.
وفي أعمال لؤي مثلاً لوحات تصوّر: ماسح الأحذية أو بائعي الجوارب.. نجد ذلك الشغف بتصوير الإنسان البسيط في إطار منكسر حزين، يتكئ على قدرة الفنان في جعل اللوحة تنبض بالحياة رغم ما فيها من أسى، أما لوحات ليلى التي مرت بمراحل مختلفة، فتركز أكثر على الأسلوب في شكلانية متمردة لا حزينة ولا منكسرة، إنها تذكرنا في أعمالها بالمكسيكية فريدا كاهلو ولاسيما في الاحتفاء بالجسد الأنثوي وبالعيون.
ليلى التي كانت كلما تستعيد ذكرى لؤي تقول عبارة «يا ما أحلاه»، ظلت تتذكر كيف التقت به للمرة الأولى في افتتاح معرض الخريف في حلب منتصف الستينيات، ولم تكترث لمن حذرها منه، ووصفه بأنه مجنون، فبنت معه صداقة تقدير واحترام، ولكنها شعرت حياله بالحزن، لأنها وجدته ضحية آخرين، كانوا يستغلونه.
وعندما تعرض لؤي للحريق الذي أودى بحياته، سافرت إليه فوراً وزارته في مشفى حرستا العسكري بصحبة صديق مشترك هو الشاعر منذر مصري، وهنالك أحزنها منظره بجسده المحترق المغطى كله عدا رأسه، وهالها ما عاناه من آلام مرهقة، جعلته يغير وضعيته متململاً من شدة الوجع، ولكن ما إن دخلت عليه، حتى بدا وكأنه لا يعاني شيئاً، فكرامته لا تسمح له بإظهار ضعفه، وقال لها «أهلا وسهلا ليلى».
وبعد رحيله أخذت ليلى تغرق شيئاً فشيئاً في عزلة طويلة، فلم تنسجم مع جو الحراك التشكيلي في دمشق، ولم تكوّن صداقات مؤثرة مع الفاعلين فيه، فرجعت إلى اللاذقية، واستقرت فيها، ولم تغادرها إلا قليلاً.
أثرت عزلتها في حضورها في المشهد الفني الرسمي والأكاديمي، ومن المؤسف أن الجرائد والمجلات الثقافية والفنية المتخصصة طوال عقود لم تعط تجربتها ما تستحق، حتى إن مجلة رصينة مثل الحياة التشكيلية لم تنشر أي مادة عن ليلى نصير، ربما باستثناء الحوار الطويل والشامل الذي أجراه معها زميلنا علي الراعي المشغوف دائماً بالتجارب الفنية التشكيلية السورية والكتابة عنها وتوثيقها في كتب ومقالات صحفية.. غير أن النقاد من غير الرسميين والأكاديميين والمتحررين من هذين الإطارين، لم يكفوا عن الإشادة بتجربتها، وساهموا في ترشيحها لجائزة الدولة التقديرية سنة 2014، والتي كان حصولها عليها مفاجئاً للكثيرين، ومنهم أنا.
وفي وسع التشكيل السوري المعاصر، ولاسيما في جزئه الأنثوي، الفخر بأنه قدم لعالم الفن اسماً هو ليلى نصير، فهذا الفنانة التي آثرت التشكيل على كل مباهج الدنيا، وأسلمته روحها وفكرها وجسدها، جسّدت في أعمالها خطاً فريداً لا يشبه سواها رغم ما فيه من تأثيرات، وغدت مع لوحاتها، ولاسيما ثلاث نساء والجوع، رقماً صعباً ومعادلاً لا يتكرر، وآمنت بأن سورية مهما جرحت، فإنها لن تموت.