مَنْ يَسْكُنُ في الآخر أكثر؟!

تشرين- بديع منير صنيج:

كثيراً ما تفتنني فكرة أن أقرأ شيئاً، وأحسّ أنني المعنيُّ شخصياً بتلك الأحداث، أو الأفعال التي تقوم بها الشخصياتُ في تلك الرواية أو المسرحية أو حتى السيناريو، وهو ما يدفعني في بعض الأحيان لأن أذوب في السَّرد أو الحوار، وأتماهى مع البناء النفسيِّ لإحدى الشخصيات، حيث تذوي المسافة بيني وبينها إلى الحدود الدنيا، وأتطابق معها بشكل لا يُصدَّق، وفي مرَّات أخرى أتخيَّل نفسي الرَّاوي، أو على الأقل أنسحِر بحكايته، وأتجوَّل في عوالمه كالمُسَرْنَم، أو لنقل كدُمية «ماريونيت» مشدودة من جميع أطرافها وحواسِّها إلى عقله، ليس من دون وعي، ولكن برغبة دفينة بزيادة جُرعة المُتعة عبر الغوص في فِكْر المؤلِّف وتلافيف دِماغِه، ومعرفة الأسرار الكامنة وراء كل خطوة يجعل شخصياته تخطوها، وكأنها تفعل ذلك بملء إرادتها لا إرادته، وهنا لا أستكبِر الانجراف مع تياراته وشحناته العاطفية التي يبثُّها في ثنايا نَصِّه، رغم أنني في تلك اللحظات أكون قائداً ومُنقاداً في الوقت ذاته، مثل ممثِّل بارعٍ يندغم اندغاماً تاماً مع شخصيته، لكن من غير أن يفقِدَ وعيه لذاته. إنها مُتعة رمي النَّفس في أحضان الآخرين واستنشاق الأوكسجين الذي يتنفسونه، وفي كثير من الأحيان الاختناق معهم بثاني أكسيد الفاجعة أو خردل الخيانة أو حتى بغصَّات اللوعة والحرمان. هي جماليّةٌ أن تتكون في رَحِمِ الفكرة ذاتها، وأن تولَدَ ولادةً طبيعية وأنت ملفوفٌ ومُغطَّىً بأوراق كِتاب، وتُناغِم نَبضَكَ مع العاشقين فيه، وتزعل حدَّ البُكاء لأحزانهم، وتتمسَّك بجَمَالِ أخطائهم كطالِبٍ يُعيد تقديم امتحانه للمرة الألف، وفي كل مرة ينجح، لكنه لا يرغب في التخلي عن مقعده الوثير في قاعة الدَّرس، ولو كان ذهنه يُلاحِق كُرَةً على المرج أو وجه حبيبته في طلاسِمِ كتاب الجَبْرِ لا فرق.
رغبةٌ دفينة في الهروب من وحشة الأيام والخوف المُعشِّش في التفكير بها، رهبةٌ تُجَمِّدك ولاسيما إن كنت تملك ما يكفي من القدرة على التنبُّؤ بمآلات الأشخاص والأمكنة وحتى تاريخ صلاحية عِطر الوردة في أقصى حديقة صامدة في بلدك، هروبٌ من الحاضر مرَّةً نحو ماضٍ لك، وأخرى نحو ماضٍ لغيرك، لكنك تسترشد به في رسم خطواتك واستشراف ملامح مستقبلك، أو لنقل مُحاولة لبناء سيناريو أنت بطلُه، «غريبة تلك السنوات التي أعقبت الحرب مباشرةً، تكاد تكون أغرب من الحرب نفسها، مع أن الناس لا يتذكرونها بتلك القوة. وعلى نحو مختلف، كان الإحساس بعدم الثقة بأي شيء أقوى مما كان سابقاً. ملايين الأشخاص وجدوا أن البلاد التي حاربوا من أجلها لا تريدهم» هذا مُقتطف من مشاعر شخصية للكاتب البريطاني جورج أورويل كتبها على لسان «جورج باولينغ» بطل روايته «الخروج إلى الهواء الطلق» التي تحكي عن الاضطراب المزلزل لإنكلترا في الحرب العالمية الأولى، أحسست وأنا أقرؤها بذهولٍ كبير، فهل هناك نكران أكبر من ذلك يمكن لإنسان أن يعيشه، فكيف لملايين من البشر؟ لكنني قلت: إنها البراغماتية الأوروبية التي حوَّلت النَّاس خلال الحرب وقوداً للمعارك، لتتركهم بعدها رماداً تذروه الرياح، أو مُجرَّد أشلاء مُتناثرة، وفي أحسن الأحوال أُناس بذاكرة معطوبة، جعلتهم بقدرة قادر إما متآمرين أو متمردين، فحسب الرواية ذاتها «الناس الذين كان من الممكن، بالطرق العادية، أن يمضوا حياتهم على نحو هادئ من دون أن يفكروا بأنفسهم إلا كما تفكر النقانق الذهبية بنفسها، تحولوا تماماً مع الحرب إلى متآمرين أو متمردين. أما أنا «جورج باولينغ» ما الذي يمكن أن أكونه لولا الحرب؟ لا أعرف، لكنه شيء مختلف عما أنا عليه الآن. إذا حدث، ولم تقتلك الحرب، فمن المؤكد أنها ستجعلك تُفكر، لا يمكنك بعد ذلك الاضطراب المعتوه أن تستمر في اعتبارك للمجتمع شيئاً أبدياً غير قابل للشك، لقد صرت تعرف أنه مجرد خراب». فعلاً إنه خرابٌ نفسي تُحاول ترميمه بحيوات بديلة، بأحداث مُغايرة، بتجارب أخرى لم تعشها، لكنك تستفيد منها إلى الحد الأقصى، فأنت مع المثل القائل «اللي بيجرب المجرّب عقله مخرّب»، وليس لديك أدنى رغبة في مزيد من الخراب، على العكس ما تنتظره في أُفُقِكَ هو استبدال ذاك الخلوّ الكريه من المعنى للحياة التي كُنت تعيشها مُرغماً بأشياء استثنائية، تفوق بآلاف المرَّات غرائبية الطرق التي قتلت بها الحرب الناس، وتتفوق بملايين المرات على الأساليب التي لم تقتلهم بها أحياناً، ففي الزَّمَن الذي تؤسسه لنفسك كل شيء مُتاح، ما دامت روحُك فوَّاحة، وما دمت لا تعرف حتى الآن من يسكن في الآخر أكثر، أنت في وطنك أم وطنك فيك!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
خطاب الدجل والاستعراض بحث سبل تعزيز التعاون بين وزارة الصحة والتحالف العالمي للقاحات بنسبة 5%.. تخفيض أسعار الغزول القطنية للمرة الثانية هذا العام الطيران المروحي يشارك في إخماد حريق بين الحصن والحواش بريف حمص الغربي مصادر خاصة: اللقاء بين الرئيسين الأسد وبوتين حمل توافقاً تاماً حيال توصيف المخاطر والتوقعات والاحتمالات المقبلة وزارة الثقافة تمنح جائزة الدولة التقديرية لعام 2024 لكل من الأديبة كوليت خوري والفنان أسعد فضة والكاتب عطية مسوح الإبداع البشري ليس له حدود.. دراسة تكشف أن الإبداع يبدأ في المهد تضافر جهود الوحدات الشرطية في محافظة حماة يسهم في تأمين وسائط النقل للطلاب وإيصالهم إلى مراكز امتحاناتهم الرئيس الأسد يجري زيارة عمل إلى روسيا ويلتقي الرئيس بوتين بايدن - هاريس - ترامب على صف انتخابي واحد دعماً للكيان الإسرائيلي.. نتنياهو «يُعاين» وضعه أميركياً.. الحرب على غزة مستمرة و«عودة الرهائن» مازالت ضمن الوقت المستقطع