عائدات من ذهب تبحث عمّن يجدها في الريف السوري.. استثمار الطبيعة لتعزيز دخل آلاف الأسر الفقيرة
تشرين_ رشا عيسى:
كثيرة هي المصادر الزراعية المتاحة في أراضينا، لكن من أكثرها حاليا والذي يحقق ريعية اقتصادية مهمة هو ما يطلق عليه بالذهب الأخضر المكنون الذي ينتشر طبيعياً في مناطقنا الريفية من نباتات طبية وعطرية برية بدت كنزاً مغرياً تحقق الفوائد المالية الوفيرة لمن يبحث عنها ومن يبيعها ويستثمرها ويصدرها وأيضاً لمن يستهلكها.
ومهمة البحث حالياً أصبحت شاقة بنسبة أقل من السابق مع التوجه لزراعتها، وبات الحصول على إنتاج كاف من بعض أنواعها أقرب إلى التحقق، مع توصيات الخبراء الزراعيين للجهات الزراعية الرسمية بضرورة وجود مشاتل لتأمين هذه الأنواع على اعتبارها ذات أصول برية، فكما هو معلوم فإن الأصل البري يعد أكثر غنى بالمواد الفعالة مقارنة بالصنف المزروع.
مشروعات ذات أولوية
مدير إدارة بحوث البستنة في الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية الدكتور أسامة حسين العبدالله أكد لـ«تشرين» أن الاستثمار في مجال النباتات الطبية هو من المشروعات ذات الأولوية لاسيما في الوقت الراهن كمشروعات متوسطة وصغيرة لدعم الأسر الريفية والمزارعين ووجود طلب على منتجاتها في السوق المحلي، لما تحققه من جدوى اقتصادية لكونها تزرع في مناطق هامشية لا تؤثر في زراعة المحاصيل الاستراتيجية، وتحقق عائداً مادياً للمزارعين، كما أنها غير مكلفة من ناحية مستلزمات ومتطلبات الإنتاج (الأسمدة وعمليات الخدمة وغيرها)،
توصيات بتوفير مشاتل لتأمين النباتات العطرية والطبية وتسهيل منح التراخيص الاستثمارية
ومن جهة أخرى تتمتع النباتات الطبية بفترة صلاحية طويلة مقارنة بمحاصيل الخضار والفاكهة، فهي لا تحتاج إلى تكلفة مادية ومتطلبات للتخزين في أماكن خاصة كغيرها من المنتجات (كتخزين الخضار المبردة)، إضافة إلى الأرباح التي تحققها شركات الإنتاج الزراعية والمستثمرون في هذا المجال من خلال زراعة النباتات الطبية التصديرية والمرغوبة عالمياً كزراعة الكمون وحبة البركة وغيرهما والتي ترتبط أسعارها بالأسواق العالمية.
تنوع لرفد معامل الأدوية
وعما إن كان لدينا تنوع بالنباتات الطبية التي من شأنها رفد معامل الأدوية، أوضح العبد الله أن سورية موطن أصلي للعديد من النباتات الطبية ذات المحتوى الجيد من المواد الفعالة والتي يمكن أن تكون مادة أولية صالحة في مجال صناعة الأدوية الطبية النباتية، وقد بدأت العديد من معامل الأدوية بالاستفادة من النباتات الطبية النامية برياً في بيئتنا المتنوعة مناخياً كنبات الشيح الصحراوي ونبات القريص المنتشر في كثير من المحافظات ونبات الزعتر بأنواعه المختلفة ونبات الهيدرا وغيرها من النباتات، مبيناً أن البحوث العلمية الزراعية تعمل ضمن خططها البحثية على دراسة محتوى هذه النباتات من المواد الفعالة، وتحديد أفضل الطرق الزراعية لزيادة نسبتها وتحسينها، إضافة إلى إدخال نباتات جديدة ودراسة مدى تأقلم زراعتها في بلدنا للاستفادة من موادها الفعالة في الصناعات الصيدلانية كنبات الستيفيا (بديل السكر) والزعفران.
خريطة الانتشار
وعن دور وزارة الزراعة في التشجيع على زراعة النباتات الطبية أشار العبدالله إلى أن وزارة الزراعة تشجع على نشر زراعة النباتات الطبية من خلال اعتماد أهم النباتات الطبية ضمن الخطة الزراعية، كما تسعى إلى إدراج البنود المتعلقة بالنباتات الطبية وكل ما يتعلق بتطوير هذه الزراعات ضمن الاتقافيات ومذكرات التفاهم الدولية، كما تعمل بالتعاون مع المنظمات والهيئات والاتحادات ذات الصلة لتمويل مشروعات زراعة النباتات الطبية بهدف مساعدة ودعم الأسر الريفية وبهدف نشر هذه الزراعات، إضافة إلى إقامة الندوات والمؤتمرات حيث تم في الآونة الأخيرة بالتعاون مع العديد من الجهات والفعاليات عقد مؤتمر تحت عنوان (الاستثمار الأخضر في مجال النباتات الطبية والعطرية) الذي سلط الضوء على أهم معوقات زراعة هذه النباتات وكيفية تسويقها بالشكل الأمثل ومعرفة مناطق زراعتها وانتشارها في سورية، وتم التأكيد على ضرورة إحداث منصة إلكترونية تضم كلاً من المنتجين والمستثمرين وكل ما يتعلق بإنتاج وزراعة وتسويق النباتات الطبية والعطرية، وفي هذا المجال تعمل الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية بالتعاون مع كل الفعاليات الزراعية ذات الشأن على إنجاز خريطة توزع وانتشار النباتات الطبية البرية والمزروعة في جميع المحافظات. كما قامت وزارة الزراعة بتشكيل لجنة وطنية لنشر زراعة الزعفران في محافظات القطر ودراسة مدى ملاءمته للزراعة والجدوى الاقتصادية، وتم اعتماد بروتوكول إكثار نبات الستيفيا بطريقة زراعة الأنسجة.
الزعتر الخليلي تجربة ناجحة
وعن تجارب وزارة الزراعة الناجحة في هذا المجال، أكد العبد الله أنه ومن خلال التعاون المشترك بين البحوث العلمية الزراعية واتحاد النحالين العرب تمكنوا من نشر زراعة الزعتر الخليلي في محافظات (حمص، حماة، طرطوس، اللاذقية) والتي تعدّ تجربة ناجحة لاقت قبولاً واستحساناً لدى المزارعين.
تجارب قديمة
من جهته، أكد الباحث الزراعي الدكتور مجد درويش لـ«تشرين» أن الاستثمار النباتات الطبية والعطرية، التي يمكن أن نطلق عليها اصطلاحاً بالذهب بالأخضر المكنون، قد بدأ مبكراً لدى ما يسمى الطب الشعبي، لينتشر شيئاً فشيئاً مع اتساع المعارف حول أهمية هذه النباتات وفوائدها المتعددة، فأضحت مصدراً من مصادر الدخل وذلك لشريحة واسعة من أهل الريف الذين أتقنوا جمعها وزراعتها مؤخراً،
تحقق جدوى اقتصادية لكونها تزرع في مناطق هامشية لا تؤثر في زراعة المحاصيل الإستراتيجية
حيث تمتاز «الفلورا» السورية بغناها بهذه المصادر النباتية التي تنمو وتنتشر كثيراً في البيئة السورية وبشكل طبيعي من دون تدخل من قبل العامل البشري.
استخدامات متعددة
وأوضح درويش أنه بالنظر لأهمية هذه النباتات واستخداماتها المتعددة في مختلف النواحي الغذائية والطبية والعطرية، فقد برز توجه كبير لاستثمارها وعلى مختلف الصعد زراعياً وصناعياً وتجارياً، ما انعكس إيجاباً على المستوى المعيشي لعدد لا بأس به من القاطنين في الريف، هذا ولم يقف الأمر عند عمليات جمع هذه المصادر النباتية وتوضيبها وتصديرها، فقد برزت العديد من المشروعات التي تشجع على نقلها من بيئتها، حيث يتم التوجه إلى مناطق زراعية وذلك للحصول على الإنتاج النباتي الكافي، وهنا برز دور بعض الشركات، التي تعنى بالمجالين الغذائي والطبي في استثمار زراعتها وتصنيع المنتج، إلا أن الخطوات المنجزة في هذا المجال لا تزال خجولة نوعاً ما، لاسيما أن هناك بعض الصعوبات المرتبطة بنقل زراعتها على اعتبارها ذات أصول برية، فكما هو معلوم أن الأصل البري يعد أكثر غنى بالمواد الفعالة مقارنة بالصنف المزروع، فمن عمليات جمع أوراق الغار والزعرور، تم نقل زراعة الزعتر السوري (الشائع) إلى الأراضي المشجرة، وجمع أجزاء المردكوش (الزعتر الخليلي) والقبار والزوفا وغيرها من النباتات ذات الأهمية الغذائية والطبية والعطرية وتصديرها.
المزيد من التشجيع
في الواقع، هذا المجال ما زال يحتاج إلى تشجيع أكبر من الجهات المعنية، على الرغم من الجهود المبذولة للتوسع بزراعة هذه المصادر النباتية والاستفادة منها بالدرجة القصوى، وذلك عبر إقامة المشاتل التي تزود المزارعين بالشتول المناسبة، أو من حيث منح الاستثمارات لبعض الشركات المتخصصة في استخلاص المواد الكيميائية الفعالة والزيوت العطرية والاستفادة منها طبياً وغذائياً.
ولابدّ من الإشارة إلى أن زراعة مثل هذه الأنواع النباتية لا تتطلب أراضي ذات سهول واسعة أو خدمات زراعية خاصة، إذ يمكن الاهتمام بها في نطاق المشروعات الأسرية الصغيرة أو حتى في بعض الأراضي الهامشية، ما يساهم في تحقيق دخل مناسب وتنمية ريفية مستدامة لاحقاً.
كما يمكن التنويه إلى أن العديد من هذه النباتات لا تزال مجهولة بمواصفاتها النباتية والنوعية واستخداماتها، وهنا كان الدور البارز في تشكيل لجان مهمتها حصر وتوصيف هذه الأنواع النباتية، فضلاً عن دور بعض الجهات العلمية البحثية بدراسة مكوناتها الكيميائية للتعرف على مدى غناها بالمواد الفعالة ذات الأهمية الغذائية والطبية العالية. هذا ولا يزال الدور الذي تقوم به بعض الجهات المعنية الزراعية أو تلك الجهات ذات الصلة ضعيفاً في هذا المجال لتحقيق أقصى استفادة من هذا المصدر الاقتصادي الوطني المتاح.