عن الزجل في بلاد الشام وعن نسره الباقي
تشرين- سامر الشغري:
أتذكّر أني حضرت مباراة تحد في شعر الزجل في الصالة الرياضية بمدينة دوما سنة 1996، وكان طرفا المنافسة فيها الشاعرين: اللبناني الراحل محمد مصطفى والسوري أسامة السمرة أبو خليل، ولأن المباراة استغرقت أكثر من أربع ساعات، لم أستطع حضورها كلها، فاكتفيت بمتابعة أقل من نصفها بقليل.
ولكن هذه المباراة كانت شجاعة كبيرة من الشاعر السمرة، في الوقوف وهو في بداية مسيرته أمام مصطفى أحد فحول شعر الزجل المعاصر، والذي تهاوت أمامه كل قامات الشعر في لبنان، واستطاع هزيمتهم جميعاً، حتى كانوا يتحاشون مواجهته.
ولكن السمرة «حسبها صح» بأن ربط اسمه إلى جانب شاعر في مستوى مصطفى، حتى وإن لم يستطع مجاراة صوره المعقدة وقوافيه الصعبة، التي طالما تحدى بها منافسيه، كالمقطع الذي استخدم في نهاياته تكرار حرف الزاي:
«شو بدي طبب وحكم وداوي
بسكر جرح تاني جرح نزنز
بدي يعيط لا ركز ولا هداوي
بأعلى طابقو الرقاص هزهز»
ولا ريب أن الزجل منجز إبداعي في بلاد الشام، لذلك كان العنصر الوحيد من لبنان الذي سجل على قائمة التراث العالمي على سبيل المثال.. صحيح أن لا شعب يستطيع احتكار نسبة هذا الفن له، لأنه عرف الكثير من التحولات بدءاً من مؤسسه (مار أفرام السرياني) الذي ولد وعاش شمال سورية، ولكن الشعراء اللبنانيين فاقوا أقرانهم السوريين والفلسطينيين، بأنهم فتحوا مباريات التحدي من أبوابها الواسعة، التي كانت تتبارى فيها الجوقات على شكل بطولة، وكانت تتحول إلى حدث سياحي وثقافي يجتذب ألوف السياح إلى لبنان لمشاهدة جوقات: شحرور الوادي والقلعة وخليل روكز والزغلول والجبل والعاملية وغيرها، وهي تتنافس فيما بينها على منابر الزجل، للفوز بالمركز الأول ونيل استحسان لجنة التحكيم التي كانت تضم نخبة من أهل الشعر والأدب.
ولعل الزجل اللبناني في لبنان يدين بتطوره للشاعر خليل روكز الذي توفي شاباً في سن الأربعين، ولكنه كان أول من افتتح مباريات التحدي بين الجوقات، وحدد لها مضموناً هادفاً وواعياً بدلاً من الاكتفاء بتبادل الهجاء، فكانت هذه المباريات هي التي رفعت مكانة شعر الزجل اللبناني، وجعلته يبلغ الذرا، كما طور شعر النقائض بين جرير والأخطل والفرزدق من الشعر العربي برمته.
هذا الأسلوب لم يتبعه الشعراء السوريون بل ورفضوه، فالشاعر الراحل فؤاد حيدر الذي أسس وترأس جمعية شعراء الزجل في سورية طوال أكثر من أربعين سنة، أخبرني خلال مقابلة سابقة أجريتها معه، أنه ينكر بالمطلق مباريات التحدي في الزجل، لأنها تسيء في رأيه لهذا الفن، وتجعله ساحة لتبادل السباب والشتائم، وكان لهذا الرأي الذي آمن به رأس شعر الزجل السوري، الأثر الأكبر في ألا يأخذ الزجل لدينا سمة الجماهيرية، وظل منغلقاً على نخبة معينة تسمعه ويعجبها، بدلا من أن تجذب الأجواء الحماسية والتنافس حشداً واسعاً من من الجمهور.
ولكن الزجل اللبناني في زمننا الراهن تراجعت مكانته، وخفت حضوره، أولاً من جراء ضغط وسائل الترفيه الحديثة، وثانياً من جراء رحيل أعلامه الكبار، من: عماد حرب وجريس البستاني وأسعد سعيد وأحمد السيد ومحمد مصطفى وزين شعيب وزغلول الدامور، حتى لم يبق من هؤلاء إلا موسى زغيب ومن الجيل الذي أتى به طليع حمدان.
لقد حظي زغيب من بين زملائه بألقاب كثيرة، من النسر الأسمر نسبة للون بشرته، وبمارد المنبر نسبة لطوله المديد، وبالملك قياساً لما حققه من انتصارات في مباريات التحدي، كما اتسم شعره بنبرة عالية وقاسية مفحمة في الهجاء، وبلطف شديد وتدفق عاطفي في الحب، وسعى طوال حياته لتحديث الزجل من حيث إدخال آلات موسيقية مختلفة، وتبني شعراء شباب من خلال برنامج تلفزيوني تعرضه إحدى فضائيات لبنان، وتشجيع المرأة على اقتحام هذا الفن الذي ظل ردحاً من الزمن حكراً على الرجال.
زغيب الذي أصبح يميل في السنوات الأخيرة لشعر الشروقي، واستخدمه في المآتم لرثاء الراحلين، هو نسر الزجل اللبناني الباقي، وقصائده التي ألقاها على مدى أكثر من ستين عاماً محفورة في وجدان الناس، ومنها قصيدته التي يتغزل فيها بحبيبته الساكنة على طريق الشام، وكأنه يحنّ للأيام الخوالي التي جمعت سورية ولبنان:
«مشتاق زورك ببيتك عا طريق الشام
آخر شتورة وفي حد البيت صفصافة
ويكون بعدو رطب شعرك من الحمام
ويصير يرقص من كتافك على كتافي».