«خليل البيطار» وبطله الذي يفي بالعهد (شال وبخور)
تشرين- راوية زاهر:
بتسع قصصٍ شائقةٍ، متوسطة الطول والحجم أتحفنا الكاتب «خليل البيطار» بمجموعته القصصية التي وسمها بـ(شال لدالية)، صّادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة، إذ تنوعت فيها الأمكنة والشخصيات والأبطال، لتكون كل قصة لوحة فسيفسائية متناسقة الترتيب، وعائمة على بحرٍ من الثقافة والحضور المميز للشخصيات، نتنقل فيها بين دمشق وحواريها، وبين فلسطين ومدنها، وصولاً إلى مخيم اليرموك الغارق في حزن المقابر ووعود الأحبة.
(شالٌ لدالية)، عنوان المجموعة، وقد أخذ بشكلٍ تقليدي من عناوين إحدى القصص.
إذ حمل الـ(شال) العنوان بعداً رمزياً طالما ارتبط بالقضية الفلسطينية، وترافقه الكوفية، لكن الشال هنا يخص المحبوبة الذي وعدها به (أحمد مقدسي) حبيبها الشهيد أن يحضره لها من القدس، ولم تذكر الكوفية لعدم الحاجة.. وكان لها ذلك، (لدالية ) التخصيص هنا، الهدية يقتصر حضورها من أجل الحبيبة.
تميّزت القصص بأقوال مأثورة لكتّاب عرب وعالميين في حالةٍ استعراضية تشي بثقافة عالية، وتحمل عمقاً أدبياً يقودنا إلى أحداث القصص، فتارة كنا نجد أقوالاً عن الكتب لرسول حمزاتوف – الشاعر الداغستاني ذي الصيت الذائع- تخصّ الكتب لتتماشى مع فحوى قصة الكيس ومكتبة (زاهد الكمالي) وما آلت إليه حالها بسبب سطوة زوجة سطحية اعتاد معها على التنازلات لتكون الضريبة هي أغلى ما يملك، مكتبته التي انتقلت لتركن في مقبرة تليق بضعف صاحبها وتنازلاته.. وأقوال أخرى لـ (والت ويتمان) – من أهم شعراء أمريكا- … إنهم أحياء، وبخير، في مكان ما.. هؤلاء هم الشهداء الذين ضمتهم المقبرة المنسية في مخيم اليرموك بعد قرار إحاطتهم بسور.. ومع أبطال الشغب في قصة على طريق دمشق استنبط قول لـ(فرانسوا ساغان).. «ففي القلوب لهيب لم يهدأ بعد.».. ولا يمكننا المرور من دون الوقوف على رسالة جبران خليل جبران لـ (ماري هاسكل) عن شجرة الجوز الواقفة الشامخة، المتأملة، المراقبة، العصية على الموت، وربطها معنوياً ودلالياً بجوزة صابر وجدته (فهدة) رمز القوة والعنفوان، وحبيبته (سلمى) رمز الرقّة والحنان.
القصة الأجمل من حيث غزارتها بالرموز وعناصر الجمال القائم على المثل الشعبي، والدلالات المعنوية المرتبطة بعمق الواقع والتشخيص الراقي المتفرّد والوصف الباذخ، (ظلت شجرة الجوز تمدّ أياديها لأهل القرية وضيوفها).. لتصير عبارة الطفولة (يا جوز تخبّا وتمكن) لازمة انتقلت إلى عالم (صابر) الذي فقد محبوبته (سلمى) بعد عهد ووفاء استمر ثلاثة أعوام، فهي تحوك كنزة لصابر في سجنه الذي لم يعد باستطاعة الجوز أن يغير من مصيره الحزين شيئاً، تحوك في النهار، وتحلّ ما تنسجه في الليل لتطيل من زمن الردّ على الخاطبين، فهي من سُئلت: متى تردين على طلبات الخاطبين، فتقول عندما انتهي من نسج الكنزة، فكان كلامها كناية عن المماطلة والصبر في تناص جلي مع الحكاية الإغريقية المعروفة، إن لم يكن لي عنق الأخيرة لتصير حكاية فلسطينية.
هنا حيث تسيطر الكوابيس على صابر حاملة معها الحزن والفراغ.. وعندما خرج بعد عشر سنوات من السجن، كان الجوز قد تاهت دلالاته، وواصل صابر بعدها بحثه عن ضياء قادرعلى قهر الأشباح المتطاولة التي ترتدي أقنعة شمعية مرعبة.
حضر الحوار بقوة وفي أكثر من موقع في محاولةٍ للكشف عن ملابسات الأحداث المتداخلة وفك شيفرتها كما في قصة (كعب أخيل)..
من نصحك أن تقلب حياتنا رأساً على عقب؟
الزوج : إنها موهبة كعب قدمي اليسرى،
ألم تسمعي بكعب آخيل؟؟
همست الزوجة : يا للقوي الضّعيف، من هو آخيل هذا؟
وأيضاً ما لنا ولكعبه، ولون عينيه.؟
وقد توّقف الكاتب في إحدى قصصه الحاملة لعنوان (البرامكة) : حالة اجتماعية تطول أصحاب البسطات ومعاناتهم مع أصحاب المحال الشرعيين، ودوريات الشرطة، وحالة الفقر الموجعة التي تفتك بحال هؤلاء وخساراتهم بعد تجريدهم من بضائعهم، ليطول الحوار بأسلوبٍ رشيق بين الرجل الأحول وصديقه أبي جمرة، وهما من تجار بسطات البرامكة في دمشق..
لم يخل الكتاب بقصصه التسع من تقنية التناص، وذلك من خلال إحالتنا إلى قصص معروفة وربطها بالواقع.
فالأحول قال لأبي جمرة : كيف تتصور شعور عيسى الناصري الذي صُلب وسُمّر فوق الجلجلة حين رأى الجنود الرومان يقترعون على اقتسام ثيابه؟ فردّ أبو جمرة: أتوقع أن يكون همس : الصّلب أهون من رؤية ما يجري، لينطبق الحال على اقتسام غلالهما بعد مشاهدة ما يجري من بعيد. الصور مبتكرة تارة، ومكرورة مطروقة تارة أخرى، فقد تكررت صورة نقش أسماء الأحبة كحالة من الوفاء والمواثيق على الحجارة والشجر.
في حين جاءت النهايات في جلها فجائعية تميل إلى اليأس والنكران والقسوة، وكذلك موت الشغف، حتى شهداء المقبرة الذين كانوا ينعمون بمساحتهم الواسعة في عالمهم الأرضي في قصة (شال لدالية)، تحوّلت مقبرتهم في نهاية المطاف إلى حظيرة للماشية المهرّبة من الخارج.. قصص المجموعة واقعية، تقوم على صراعات خفيّة ولا تقوم على العنف، وكأنها اللغة الناعمة التي لا يراد منها التأجيج والعنف.. وجلّها كان استعراضاً متروكاً بخواتيم مفتوحة للقارئ تتركه يتصوّر النهاية التي يرغب فيها .