قال، وهو كاتب، في رثاء كاتبٍ رحل عن عمرٍ طويل ونتاج غزير: غاب وترك مدينتَه للحلكة واليباب!
تأمُّلُ المدينة التي سقطت في الظلام والخراب بعد رحيل أحد كتابها، يستوقف القارئ الحاضرَ دائماً في الهوامش المفيدة للمبدع، لأن الكلامَ موجّهٌ إليه وهو المقصود، وما كان التأثير الأدبي، في الجموع، عبر تاريخه منذ كُتب الشعر وأُنشدت الأغنيات وقُصّت الحكايات، إلا عبر المجازات والتشابيه البارعة، وها هو «الرّاثي» لا يكتفي بالحزن على الراحل، بل يرحِّل المدينةَ بأسرها خلفه ويراها خراباً يباباً تحت حلكة تامة، رغم أنها مدينة غير كلّ المدن، تتسم بفرادة العواصم، وهي ليست بعاصمة في التسميات الإدارية، بل بتاريخها الإبداعي في الشعر والموسيقا والأبحاث الفذة والفنون كلها! أو ليس في قوله إذاً «مبالغة»؟ والمبالغة في البلاغة العربية أخذت حيزاً كبيراً في دراسات اللغويين، وأضاءت حتى على آيات من القرآن الكريم، إذ لمست مفردةَ: «يكاد» في صورة: «يكاد زيتُها يضيء ولو لم تمسَسه نار» ليضع حداً بين الحقيقة العلمية الفيزيائية والصورة الأخاذة التي ساقها إلى الخيال، ومطلوبٌ في الأدب تكوينُ هذه الصور ليصنع التأثير المأمول، وكم كان الشعر العربي سبّاقاً في بلوغ الذرا، وكم كان فيه فرسانٌ لكل منهم طريقة جعلت النقاد يسهرون، ويفككون، ويذهبون بعيداً في تحليل الصّور للإمساك بمعانيها، وإعادتها أكثرَ سهولةً لفهم قارئها! وبعد الشعر جاءت دراساتُ المحسّنات البديعية والجناس والطباق والاستعارات المكنية وغير المكنية، ورُسمت القواعدُ والأسس التي يخرج من جمودها «العلمي» كلُّ الأخضر والمزهر من الأدب، ضرورتُها ضرورةُ الوتر الصامت لإنشاد أيِّ أغنية في الوجود!
وفي الدراسات النقدية أيضاً، وُزّعت المبالغة مطوّلاً، بين «مستحبة» و«غير مستحبة» ربما قياساً على السلوك البشري العادي، كحال النظافة التي يُستحسن أن تكون تامة، لكن إذا بولغ فيها تحولت إلى هوس يبتعد عن الغرض منها، ومن السلوك البدني إلى السلوك النفسي الذي يصل إلى «الوسواس القهري» حين المبالغة في رصد الأفكار ثم الغرق في البحث عن سبب هذه الأفكار، إذ يبقى صاحبها متلبثاً في المكان نفسه، يعاني ثقل ما يحمل، ويكفّ عن فعل شيء آخر تحتاجه حياتُه بالضرورة، ولعل الكاتب «الرّاثي» وقع في هذه المبالغة غير المستحبة حين ترك الراحل ثم «أبَّن» المدينة التي عانت عبر تاريخها أهوال الغزو والزلازل والنكبات الكبيرة، لكنها أبداً لم تصبح من المدن المنسيّة، لا يدلُّ عليها إلا الخرائب وعواصف الغبار…بل تواصل إنجاب المبدعين وتحضنهم، غائبين وحاضرين!
نهلة سوسو
123 المشاركات