الذهب الأخضر.. رحلة زيت الزيتون السوري من بلاد الشام إلى العالم
تشرين:
ترمز شجرة الزيتون إلى البركة والخير الوفير، وأفرد لها الله سبحانه وتعالى مكانة مهمة في القرآن الكريم، وجاء ذكرها في آيات عدة، حتى أقسم بها في كتابه العزيز وهو غني عن القسم لعباده، حين قال (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ).
ووصف الله عز وجل أيضا زيت هذه الشجرة المباركة بالمضيء لشدة نقائه وصفائه في قوله: (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ).
كما تضمنت الكتب السماوية الأخرى “التوراة” و”الإنجيل”، إشارات عدة إلى شجرة الزيتون وزيتها، مما منحها مكانة دينية عظيمة على مر التاريخ لدى جميع الشعوب والأمم، بالإضافة إلى كون غصنها يرمز إلى السلام، وزين به محيا الفائز بالألعاب الأولمبية القديمة.
ويعود ظهور هذه الشجرة إلى ما قبل 6 آلاف سنة في منطقة “إيبلا” السورية، بحسب الاكتشافات الأثرية المدرجة في الموسوعة البريطانية والأمريكية.
وما زالت الشجرة محتفظة بهذه الرمزية الكبيرة إلى يومنا هذا كإحدى الأشجار المباركة التي تعطي ثمارا غنية بزيت يعتبر من بين الأكثر طلبا حول العالم، لفوائده الصحية الجمة ومذاقه الفريد.
وقد انتشرت زراعة الزيتون في جميع المحافظات السورية، لكن النسبة الأكبر في الساحل السوري . وقد خصصت لشجرة الزيتون، وارتباطها بحضارات عريقة كالحضارة الفينيقية والإغريقية والرومانية والعربية الكثير من القص والحكايات .
فكيف ومتى ظهرت هذه الشجرة المباركة؟ ولم تنبت أساسا في دول منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط؟ وما هي مراحل التطور التي مر بها استغلال ثمار هذه الشجرة واستخلاص الزيت الثمين منها؟
بلاد الشام.. رحلة الزيتون إلى القارة الأوروبية
رجحت فرضيات عدة أن يكون تاريخ شجرة الزيتون قديما جدا، وقد يعود إلى الألفية الثانية عشرة قبل الميلاد، فقد عثر على متحجرات أوراق الزيتون في رواسب تعود إلى عصر “البليوسين” في إيطاليا، كما اكتشفت بقايا من أشجار زيتون وأنوية متحجرة تعود إلى العصر الحجري القديم في شمال أفريقيا وإسبانيا.
وتعود أصول شجرة الزيتون البرية إلى منطقة آسيا الصغرى، بحسب كتاب “أصل النباتات المزروعة” لمؤلفه السويسري “ألفونس دي كاندول”، فقد قال إنها انتقلت من سورية إلى اليونان عبر الأناضول. مع وجود فرضيات أخرى.
وعلى العموم فقد أجمعت جل الروايات على أن مسقط رأس الشجرة قبل وصولها إلى دول حوض المتوسط، كان في المنطقة الممتدة من جنوب القوقاز إلى الهضبة الإيرانية وسواحل سورية وفلسطين، لأن زراعتها تطورت بشكل كبير في هذين البلدين.
الفينيقيون.. سفراء الزيتون في حوض المتوسط
لعب الفينيقيون دورا أساسيا في نشر زراعة شجرة الزيتون، إذ أوصلوها إلى الجزر اليونانية في القرن السادس عشر قبل الميلاد، ثم أدخلوها إلى البر اليوناني بين القرنين الرابع عشر والثاني عشر قبل الميلاد، فعُدّوا بذلك أول من أدخل الزيتون رسميا إلى حوض البحر الأبيض المتوسط.
تنتشر زراعة الزيتون بكثرة في دول حوض البحر المتوسط لاعتدال طقسها
كما عرفت شعوب المنطقة على مر التاريخ أشجار الزيتون وزرعوها واستخلصوا الزيت من ثمارها، باستثناء الآشوريين والبابليين، فلم تكتشف دلائل عن ممارستهم لهذه الزارعة، أو على الأقل ربما تأخروا في ذلك
وبعد أن زرع الفينيقيون شجرة الزيتون في شبه الجزيرة الإيطالية خلال القرنين الرابع عشر والثاني عشر ق.م، تمكنوا بفضل قوتهم التجارية من إيصالها إلى إسبانيا في القرن الحادي عشر ق.م خلال أوج سيطرتهم البحرية.
غصن الزيتون.. رفيق الرومان السلمي في غزو العالم
تابع الرومان ما بدأه الفينيقيون، وقاموا بتوسيع زراعة شجرة الزيتون في البلدان المطلة على البحر الأبيض المتوسط، واستخدموها في غزواتهم كسلاح سلمي لتوطين السكان، وحثهم على الاستقرار، مما أكسب هذه الشجرة مكانتها الكبيرة، خصوصا أن أغصانها كانت دائمة الاخضرار، وتعطي إنتاجا غزيرا من الثمار لتأقلمها مع مناخ المنطقة.
لا يكاد بيت من بيوت أرض الشام المباركة وما حولها يخلو من زيت الزيتون إذ هو جزء لا يتجزأ من إدامهم
ومع حلول القرن السادس قبل الميلاد، أصبحت الشجرة المباركة منتشرة في جل دول حوض المتوسط، إذ وصلت إلى سردينيا خلال العصر الروماني، ومنها إلى كورسيكا، ومرسيليا في فرنسا، قبل أن تحط الرحال بجزيرة صقلية ثم في طرابلس وتونس.
كما عرف الأمازيغ في شمال أفريقيا أيضا أشجار الزيتون عندما وصل إليهم الرومان، وجلبوا معهم هذه الأشجار، وقاموا بتطوير زراعتها في جميع الأراضي التي احتلوها.
إشبيلية.. لمسة إسلامية تغير مسار التاريخ
لا شك أن المكانة الدينية التي حظيت بها شجرة الزيتون ، ساهمت في إعطائها قيمة أكبر في كل مراحل الحكم الإسلامي للمنطقة العربية والأمازيغية والأوروبية. لكن الاهتمام بالشجرة اكتسب زخما أكبر في عهد حكم الدولة الإسلامية للأندلس منذ القرن الثامن الميلادي، لينتقل مركز ثقل زراعتها من مناطق البحر الأسود وبحر قزوين إلى شبه الجزيرة الأيبيرية.
ومع حلول القرن الحادي عشر، أصبحت إشبيلية مركزا لكبار المنتجين والمصدرين لزيت الزيتون الذي يمتد نطاقه التجاري حتى الإسكندرية.
رغم أن العرب وجدوا أشجار الزيتون لدى وصولهم إلى إسبانيا والبرتغال، فإنهم جلبوا أيضا أنواعا وسلالات جديدة أكثر مردودية وتحملا للظروف المناخية لجنوب أوروبا وشمال أفريقيا، مما أنعش زراعة هذه الأشجار في المنطقة خلال ثمانية قرون من حكم العرب للأندلس، وهو ما أثر بشكل كبير على المزارعين، وظهر جليا في الكلمات باللغة الاسبانية إلى اليوم، فنجد أن الزيتون يسمى “أسيتونة” (aceituna) والزيت “أسيت” (aceite)، وكذلك بالبرتغالية يسمى الزيتون (azeitona) وزيت الزيتون (azeite).
وقد كان أطول سفر على الإطلاق لشجرة الزيتون، هو ذلك الذي حملها بعيدا عن موطنها الأصلي خلال اكتشافات كريستوفر كولومبوس للعالم الجديد في 1498م، إذ نقل المكتشفون الإسبان زراعة هذه الشجرة إلى أمريكا، وبدأت بالظهور في أمريكا الجنوبية انطلاقا من سنة 1560.
ما حلت شجرة الزيتون في أرض، إلا ورافقتها حمولتها ودلالاتها الدينية والاجتماعية والثقافية التي تعكس تاريخ الأرض، وتجسد تضحيات الأجداد، واقتبست منها قصائد الشعراء وحكايات الأدباء.
كما أصبح غصن الزيتون رمزا للسلام منذ القدم، إذ تقول القصة المعروفة إن حمامة بيضاء عادت إلى النبي نوح حاملة غصن زيتون، مشيرة إلى انخفاض منسوب مياه الطوفان، وبأن الوضع أصبح مستقرا وسلاما، ومنذ ذلك الحين أصبحت الحمامة البيضاء وغصن الزيتون يشكلان معا أيقونة للسلام العالمي.
منذ فجر التاريخ، اعتبر غصن الزيتون الذي تحمله الحمامة رمزا للسلام
وقد ارتبطت شجرة الزيتون أيضا بالحضارة اليونانية القديمة، فقد كانت العروس تضع على رأسها غصن زيتون، وكذلك الفائزون في الألعاب الأولمبية، فأول شعلة أولمبية كانت في الأصل عبارة عن غصن زيتون مشتعل، كما استخدم الرياضيون الأوائل زيت الزيتون لتدليك أجسامهم وتقوية عضلاتهم.
ويحمل زيت الزيتون الرمزية نفسها، كما اكتشفت دلائل على استعماله من قبل ملوك مصر القدامى، ومنحوه مكانة كبرى تجاوزت الاستهلاك العادي إلى العلاج والتجميل، ثم استعمل كوقود للإضاءة في المصابيح الفخارية.
شكلت شجرة الزيتون على الدوام رمزا للكفاح ضد الاحتلال وتعد أحد المحاصيل الرئيسية للمزارعين الفلسطينيين، رغم مضايقات المحتل الصهيوني الذي اجتث -بحسب التقديرات- مليونين ونصف المليون من أشجار الزيتون من جذورها منذ احتلال الضفة الغربية في 1967. كما توجد في القدس أشجار يُقدّر عمرها بألفي سنة، وأخرى يقارب عمرها بـ5500 سنة.
يدخل زيت الزيتون في الكثير من الصناعات أشهرها صناعة الصابون
وقد سجلت سورية أكبر إنتاج لها في الموسم 2011/2012 بـ198 ألف طن، وتصدرت به آنذاك الدول العربية.
يتم جمع الزيتون عن الأشجار بالعصا الكهربائية أو بالعصا العادية أو بالقطف اليدوي
وتعد تجارة زيت الزيتون.. اقتصاد يدر المليارات على الدول المصدرة
أصبحت اليوم شجرة الزيتون موردا اقتصاديا مهما لمجموعة من الدول، وأصبحت زراعتها وبيع زيت ثمارها مما يدر أموالا مهمة بالعملة الصعبة. ففي العام 2019 أصبحت المساحة المزروعة عالميا من هذه الشجرة تتجاوز العشرة ملايين هكتار، كما يعيش من زراعة هذه الشجرة وعصر زيتها حوالي 6 ملايين و700 ألف أسرة حول العالم.
في موسم قطاف الزيتون أول الخريف، يتم جمع الزيتون وتنظيفه من الأوراق لإرساله للمعصرة
تحول زيت الزيتون -خصوصا في الدول المنتجة له- إلى عنصر أساسي في تغذية السكان اليومية، ويستعمل في المطبخ بشكل كبير، كما يدخل في العناصر الأساسية لعدد من وصفات التجميل والعناية بالبشرة.
وتختلف أنواع هذا الذهب الأخضر بحسب استعمالاته، لكن أجود الأنواع هو “زيت الزيتون البكر الممتاز” الذي يكون نتاج العصرة الأولى لثمار الزيتون، وينصح باستهلاكه مباشرة دون تعريضه لحرارة كبيرة، لكي يحافظ على جميع خصائصه التي تجعله أهم الدهون الصحية على الأرض.
كما نحصل على “زيت الزيتون البكر الجيد” بعد العصرة الثانية، وتكون أقل جودة وأكثر حموضة. ثم هناك “زيت الزيتون المكرر”، و”زيت تفل الزيتون”، ولا ينصح باستهلاكهما المباشر، ويتركان غالبا لبعض الاستخدامات الصناعية.
ملعقة الزيتون.. وصفة سحرية لصحة القلب وطول العمر
يعتمد النمط الغذائي لدول حوض المتوسط بالأساس على “زيت الزيتون البكر الممتاز”، فقد أجمعت الدراسات والأبحاث على أهميته الكبيرة للصحة، فهو يحمي من أمراض القلب والأزمات القلبية، بفضل الأحماض الدهنية غير المشبعة الأحادية التي تعمل على خفض مستوى الكوليسترول في الدم.