يفتّشُ عن بيت الشعر.. وينام بعد عناءٍ بلا قصيدةٍ

تشرين- راوية زاهر:

(لا شيء في أوانه).. مجموعة شعرية للشّاعر محمد عيسى صادرة عن دار بعل للطّباعة والنشر والتوزيع.

كتاب شعري يستلقي تحت ظلاله الوارفة ماضٍ بألف طعنة وحاضرٌ لا يصلح لكتابة قصيدة ومستقبل متلبّد بغيوم الخيبة ستقف فيه عاجزاً عن إقناع مواليد الحرب أن صوت الرّعد ليس قنبلة.

ولنا مع العنوان وقفة؛ فـ«لا شيء في أوانه»، أشبه بـ «لا شيء يعجبني» للشاعر محمود درويش، أو يذكرنا به على اختلاف النّفَس الشعري لكليهما.. العنوان كحالة تقليدية مأخوذ من عناوين أحد النصوص، وقد عُمم كعنوان شامل للمجموعة، واللافت أن العنوان بشموليته وسحره يكاد يصلح عنواناً لكل نص على حدة ، فكما كل شيءٍ في هذا الوجود ترانا نقع في مصيدة (فارق التوقيت)، فهذا الواقف على الرٍصيف تأخّرَ عن موعده فرحلت الحافلة، وتلك صبية تراقبُ بنزقٍ حضور عاشقة مع حبيبها، وتعدّ الأمرَ يعود لفارق توقيتٍ أبله لم يسمح له برؤيتها قبلاً، وتلك القذيفة التي طالت طفلة السابعة لو استوقفها معلّمها ليوبخها أو يرسل إنذار شغبٍ لأهلها أما كانت لتنجو؟!

نعم فسوء توقيت زيارة الريح في موسم الزهر حرمنا خيرها وجعلها صريعة تحت مداس رواد الأرصفة.. يقول :

لاشيء في أوانه

دائماً يسبقنا أو نسبقه

خللٌ ما في التوقيت

ربما لا يحاسبنا الله عليه

 

لاشيء في أوانه

تسقط القذيفةُ في المكان الخطأ

لو أنّ المعلّم

استمهل الطّلاب لحصّة إضافية

لو أنّه استدعى الطفلة

ليسلمها ورقةً

يطلب فيها وليّ أمرها لخلل ما

في الانتباه

لعادت إلى البيت

(لاشيء في أوانه) نص حفر بقوة حضوره نفقاً من التّيه والحزن، لينقلنا بشاعريةٍ عالية إلى عوالم غريبة تدغدغ الفكر وتحرك الشعور الدفين ، وذلك بلغةٍ فارهة وخواتيم مذهلة.. فنهاية النصوص التي مالت في جلّها إلى عالم الوميض الشعري كانت تُحدث دهشةً منعشة وتترك للقارئ فراغات بيضاء يُطلب منه ملؤها كحالةٍ من إشراك المتلقي للشاعر في إبداعه، مثيرةً نشوته، لدرجة أنها لاتمرّ مروراً عابراً، وهذا ما يحتسب للشاعر؛ احترامه لمتلقيه، واختياره النوعية الراغب في حضورها، وما كان للطفولة أن تمرّ جزافاً من هنا، فحالة شوقٍ ربطت الشاعر بطفولته، من خلال عناوين اختارها بعناية (عرّ ولاد، بندقية، الطميمة، طفولة، لاشيء في أوانه، حافة الأولاد…)، ليثير حسرةً ربطته بذاك الزمان، الأم، الإخوة، وتفاصيل سرت من عمق الذاكرة. .

طميمة

منذُ خمسين أنا

ومنذ خمسين هي

لم ألعب (الطّميمة) في المساء،

وما عدتُ أبحثُ عنها

خلف التّنور

ووراء الباب

وعندما أتى دوري في الاختباء

غافلتها واختفيت

دون أن أقول لها (فتّح)

وإلى الآن

لايزالُ وجهها إلى الحائط

مغمضة العينين

تعدّ

من واحدٍ إلى عشرة

وتعيد

فالكتاب بعمقه الواضح وميله إلى اللغة السهلة الممتنعة عجّ بالنصوص الومضية التي يلتقط منها القارئ شذرات نفسية تارة وأخرى فلسفية عميقة تارة أخرى والتي لا تفتأ تذهله دوماً..

الحبّ يهاجر كما الطّيور

الطيور تعود

والحبّ لا يعود

وأمّا عن الوطن، فقد خطٍّ عنه الشاعر الكثير بحبر القلب ومخلبٍ من نار، هذا الوطن الذي نُذر لسماحة روحه الشهداء ليترجلوا إلى الله أمواتاً، وللتغريبة السورية بكامل حزنها تفاصيل تجبرك أمام الموت الطاغي على انتقاء الحياة خياراً أوحد، ولا شيء سواه.

ففي هذه البلاد نام طائر الفينيق نومة أبدية على حطام الأطفال والطيور والحجر والشجر المحترق، حتى ما عاد في حوزتنا شيء نحرقه لنقدمه قرباناً لإيقاظه أوحتى تجميع تلال أعلى من الرماد كي ينهض من تحتها نافضاً غبار موتنا، ومن هنا صار الشاعر يطالبه بالرحيل إلى بلاد تحبّ العمالقة، كأمريكا التي تدعي العظمة، وهاهو يقول مخاطباً طائر الفينيق هذا :

هل سمعت بهوليوود؟

وماأدراك ما هوليوود؟

لو ذهبتَ إلى هناك

ورأوا جناحيك الهائلين

لصنعوا لكَ فيلماً سينيمائياً من بطولتك

وقد تحصلُ على الأوسكار

أمريكا تحب الضخامة

والفخامة

ويوم القيامة

اذهب إلى هناك وانتظر رمادها

يوما ما سيكون لها رماد عظيم

يوقظ ألف طائر مثلك

وأما عن اللغة، فأيّ لغةٍ يملكها الشاعر محمد عيسى؟! هي لغةٌ تغرف من بيادر اللغة أجمل الصور، ومن بحر المعاني أروعها وأبهاها.. لغة يزينها المجاز، ويغلب عليها العمق والجزالة، تبحر بك في عوالم خاصة ورقيقة، فغلبت الصور البيانية المميزة والاستعارات المستمدة من ثقافة عالية، فالنصوص حبلى بالانزياح اللّغوي، وفاضت بالصور والتشبيهات من قبيل :

(حبل المسافة)، (خشب الصدر)، (عكازالأرض)، وكلها تشبيهات من نوع البليغ الإضافي.. (الغصن يعرج، نشف ريق قلمي) استعارات مكنية.. (عر ولاد) كناية عن كثرتهم.. كما حضر الأسلوب الخبري والإنشائي في النصوص: (قمْ أيها الفينيق) إنشاء، نوعه أمر.. أيتها الريح(خذي ماخفّ وزنه واتركي لنا القلوب عارية.)

إنشاء، نداء، وأمر.

(سأطلق ماعز القصيدة) خبر ابتدائي.

أما عن تقنية التناص، فقد استخدمها الشاعر بكامل عبقريته، إذا سحبنا إلى عوالم غاية في الجمال والمتعة، من خلال محاكاته بالهمس فحسب لقصص معروفة، تعيد نسيج قصصها لتطفو على السطح وربطها بدقة وعناية بما يرغب إيصاله للمتلقي.

(فطائر الفينيق) قصة العنقاء، التاريخية التي استحضرها بدقة، ووظفها بما يخدم النص، و(رابعة العدوية).. وما تحمله حكايتها من زهد وتصوف وغيرها.. وكذلك الجارية (تودّد) القادمة من حكايا ألف ليلة وليلة وذكاؤها وفطنتها.. وزينون وقانون الحركة.

وفّق الشاعر في استخدامه هذه التقينة أيما توفيق.

وقد ذيّل الشاعر كتابه ببعض قطع الهايكو أو ماقد رأيته هايكو، لما له علاقة بالطبيعة والشكل.

ليس بإمكانك أن تكون وحيداً

إلا في الليل

لأن العتمة

تمحو الظلال

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
في ذكرى تأسيس وزارة الثقافة الـ 66.. انطلاق أيام الثقافة السورية "الثقافة رسالة حياة" على سيرة إعفاء مدير عام الكابلات... حكايا فساد مريرة في قطاع «خصوصي» لا عام ولا خاص تعزيز ثقافة الشكوى وإلغاء عقوبة السجن ورفع الغرامات المالية.. أبرز مداخلات الجلسة الثانية من جلسات الحوار حول تعديل قانون حماية المستهلك في حماة شكلت لجنة لاقتراح إطار تمويلي مناسب... ورشة تمويل المشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة تصدر توصياتها السفير آلا: سورية تؤكد دعمها للعراق الشقيق ورفضها مزاعم كيان الاحتلال الإسرائيلي لشنّ عدوان عليه سورية تؤكد أن النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الجميع مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا