«صفاء الخضور» ترتّل حكايا المواسم بين المنجل والحصاد
تشرين-راوية زاهر:
(كبوح المنجل للحصاد) مجموعة قصصيّة لنصوص قصيرة جداً، حائزة المركز الثالث في المسابقة العربية لهذا النوع والمتعارف عليها بجائزة دمشق للقصة القصيرة جداً بدورتها الثانية وصادرة عن دار دلمون الجديدة لتشجيع المبدعين على مساحة الوطن العربي كلها.
بثمانية وستين نصاً وجيزيّاً تنوعت مضامينها ورؤاها أتحفتنا الكاتبة صفاء الخضور، في مجموعتها القصصية، مستحضرة مادة نصوصها من عمق الواقع الاجتماعي المعيش، فحضر الحب تارة وقضايا المجتمع متمثلة بالحزن الطافح من واقع الشهداء وما يرافقه من فقد وحرمان ووجع تارة أخرى، مروراً بنصوص تتعلق بقضايا الفساد الأخلاقي والإنساني، ودار المسنين، وقضايا الميراث والحرب، والهواجس السيكولوجية، وما خلفته سيميائيات الحرب التي فرضت على المجتمع.
كان عرض الكاتبة لقضايا نصوصها بأسلوبٍ وجيزي، مكثف، ومقتضب، ينغلق دائماً على عنصر الدهشة، والتشويق في الخواتيم، ناهيك بتقيّدها والتزامها بالمعيارالكمّي المتعلق بالحجم، فكانت النصوص صغيرة الحجم، مكثفة اللفظ، فجلّ النصوص تراوحت بين السطرين والثلاثة على الأكثر.
وبداية نقف على العنوان: (كبوح المنجل للحصاد).. علاقة معنوية قائمة على التلازم، تربط المنجل بالحصاد، وأضف للحالة الشعرية التي تربطهما متمثلة بلفظة بوح، والبوح عادة هو حالة خاصة سرية بين طرفين تقوم العلاقة بينهما على التودد والثقة.. والجدير ذكره أن العنوان يحلق خارج سرب المجموعة، وربما لا تربطه بنصوصها رابط سوى عنوان بسيط هو (حصاد)، وقد كان عند الولوج به حصاداً من نوع مختلف.
وقد استوقفتنا نصوص كثيرة تميل إلى الوجيز بحكائيتها الشائقة، وبضيق مساحتها واتساع رؤاها، ولابدّ من التوقف عند بعضها من قبيل نص: (ذاكرة)
النص: (اتفقا على النّسيان، يده في جيبه، عيونها ترنو إلى البعيد، رصاصة الغدر التي مرّت بمحاذاتهما، قصمت ظهر الفراق.)
فبالوقوف على هذا العنوان (ذاكرة)؛ نجد أنه يحمل حالة اختزان معينة لأحداث، أو قضايا، أو ربما مشاهدات يرفض صاحب هذه الذاكرة التخلي عنها.. فهذه عتبة نصية أولى ستحيلنا إلى عتبات متنية تالية.
النص كذلك يتميّز بالإيجاز بداية، والقصصية ثانياً، وفعلية الجملة، فالقصة بدأت بالفعل الماضي كحالة من دفع الشك عن الحدث المطروح، وبعدها جاءت الجمل الاسمية لتخدم الوصف للحالة: (يده في جيبه)؛ حالة من الاستسلام، وكناية عن عبثية الموقف.. (عيونها ترنو إلى البعيد)؛ شرود ويأس واستسلام أيضاً.
لتدهشنا الكاتبة بحدث طارئ مدهش، وهو رصاصة غدر اقتربت، واخترقت الفاصل بين القطبين الموشكين على الانشطار تماماً، وحولت المشهد إلى حالة هلع، لربما ألغت حالة الفراق المفترضة وحوّلتها إلى التصاق جسدي بين الطرفين كنتيجة مدهشة وحتمية للخوف، ومن ثمّ لترسل فراقاً كان مفترضاً إلى الجحيم، وبخاتمة مالت إلى تقنية التناص .
( قصمت ظهر الفراق)، عبارة تُعيدنا إلى مثل معروف: (القشة التي قصمت ظهر البعير).. فكان البحث عن القارئ في هذا النص متمثلاً بلغة الإيجاز، واستخدام لغة البلاغة بسحرٍ وتشويق، فهذه القصة قامت على أركانٍ ثلاثة:
المفارقة بدايةً: وكانت بجريان الحدث بشكلٍ عفوي، بسيط على حساب أحداث أخرى متمثلة برصاص الحرب الطائش، وبالحب الكامن وبعثه لحظة الخوف من الموت، وهذه ثنائية درامية يلجأ إليها الكاتب عادة لإظهار عكس ما يعنيه.
أما الحالة: فكانت حالة وعي في ذات الكاتبة المالكة لرهافة الحس، ودقة الملاحظة، محاولة إخماد كل احتمالات الصلح بين الطرفين من أجل التمهيد للخاتمة.
أخيراً، الخاتمة: وهي أهم عناصر الـ( ق. ق. ج)، لأنها غايته وهدفه، وقد جاءت صادمة، ومستنفرة للأحاسيس، واخزة ومحيّرة.
فللوهلة الأولى تشعر بأنها غير معنيّة بالمضمون، بل قفزة من داخل النص إلى خارجه الإدهاشي، والاستفزازي، كي لا يمر على القارئ مروراً عابراً..
فالخاتمة تقلب كيانه وتترك فيه أثراً يدفع إلى التساؤل والحركة، ومانحاً إيّاه فرصة التأويل وملء الفراغات.
أمّا اللغة:
فكانت كحال المجموعة برمتها بسيطة، ومكثفة، للمفردات.. فيها طاقات هائلة، بعيدة عن الحشو والاستطراد، وتميلُ إلى استخدام الألفاظ بعمق معناها، وإيحاء دلالتها، وقصر تراكيبها وحدة تكثيفها.. فالتكثيف عُرفَ كعامل حاسم في ضرورة انبعاث الدلالة.. وقد احتوت النصوص في عمق لغتها على تقنيات متميزة، كالتناص الذي أحالنا إلى نصوص أخرى تمثلت في (شجرة المعرفة، امراة بلاخطيئة،
دون كيشوت).. وإسقاطه على نص بالعنوان ذاته لنحارب طواحين الهواء في كل حين.. وندامة الكسعي في نص (داء)، ليسقط الندم على المسؤول الذي بذّر ثروته لينطق ابنه، إضافةً لاستخدامها المجاز والاستعارات من قبيل خادمة المعنى: (ظهرالفراق: استعارة مكنية.
رقبة حروفها: استعارة مكنية
للذكر مثل حظ الأنثيين: تضمين.
لحاف الوجع: تشبيه بليغ إضافي.)
فالكاتبة تميّزت في استخدامها اللغة بلاغةً وبياناً في أكثر من موقع، أضف لتقنيات السرد من تضمين وإضمار وتناص.. محققة بذلك شروط القص الوجيزي ومستحقة الفوز والسبق.