تخليداً لذكرى ضحايا الزلزال… «تحت الرماد» معرضٌ يُحاكي وَقعَ الفاجعة
تشرين-لبنى شاكر:
وثّقت عدسات الكاميرا أياماً عاشها ناجون تحت الأنقاض في كارثة الزلزال، كما رافقتْ عمليات الإنقاذ والبحث عن ناجين أكثر من أسبوع، ومن ثم تتبعت مصائرَ وحكاياتٍ لضحايا وأحياء، ستبقى في الذاكرة زمناً طويلاً، لكن، ورغم هذا الحضور والرصد لردّات الفعل ومُختلف أشكال الاستجابة للواقعة، والتي يبدو للوهلة الأولى أن لا شيء يُمكن فعله أمامها، لكن العكس هو الصحيح، يُمكن فعل المزيد دائماً، ولا سيما حين تكون اللوحة وثيقةً هي الأخرى، ليس بمعنى الإثبات والتأكيد لكن بمعانٍ مُختلفة، تظهر فيها الذاتية كجزءٍ من حالةٍ عامة، كان صاحبها شاهداً على الحدث لكن من زاويةٍ تخصه وحده، من هنا كانت فكرة «تحت الرماد» المعرض المُفتتح مؤخراً في ثقافي اللاذقية «صالة المعارض» بمشاركة 22 فناناً، تخليداً لذكرى ضحايا الزلزال.
يقول الفنان والباحث التشكيلي حسين صقور- الفينيق، والمُشرف على المعرض، في حديثٍ إلى«تشرين»: «تحت الرماد»، نداءٌ لضمير العالم ليشهد ما فعلته الكوارث والحروب الظالمة في منطقتنا، في لحظاتٍ أبراجٌ طابقيّة صارت على الأرض، وفي لحظاتٍ توقفت الحياة، وفي مكانٍ بعيد تحت أكوام الركام، صوت طفلٍ يئنّ، هذه المشاهد عالقة في الذاكرة، وستبقى إلى حين يصحو الضمير العالمي ليعيد تقييمه لحصارٍ جائرٍ أعلنه على شعبٍ من أطيب وأكرم الشعوب.
اهتمّ (الفينيق) بترتيب الأعمال «35 لوحة ومنحوتة»، على شكل قصة تُساير ما حدث، يشرح: «البداية بأعمالٍ كلاسيكية وانطباعية تصوّر المشهد وتشي ضمن فضاءاتها بحدثٍ قادم، تليها أعمالٌ كونية لها دلالاتها التي تشير للحدث المركّب القادم من التاريخ، ثم أعمالٌ مُقدّمة بحسٍ تعبيري وتجريدي غني بالرموز، عبر خطوطٍ صارخة لامست المأساة الإنسانية بقوة تلقائيتها النابضة بهزات الحياة والمعاناة، بالطبع تنوعت الأساليب لنجد بعض الأعمال الواقعية التعبيرية من خلال حركات الجسد الإنساني وملامح الوجوه، إلى جانب طائر الفينيق كرمزٍ لتجدد الحياة، والحصان المنطلق إشارةً إلى أن الوطن باقٍ بمحبة أفراده».
يُشارك الفينيق بثلاثة أعمال، فيها نفسٌ تعبيريٌّ تجريدي، يحتل فيها الأرجواني لون الحب والنار مساحةً كبيرة، نرى فيها أشلاءً إنسانية مُبعثرة، يقول عن لوحاته: «كنت ومازلت أرى أن الحدس يسبق الكارثة ويحذّر منها، لذلك أبتعد عن الخطاب المباشر لأن المصداقية تكمن في الرمز والإسقاطات، في نبض الخط واللوحة والتكوين».
الفنانة سوسن حاج إبراهيم اختارت البورتريه في لوحتين شاركت بهما، إذ إن صور الأبنية المنهارة كثيرة، ولا رغبة لديها بإعادة تشكيل مناظر الدمار الباقية أصلاً في ذاكرة الناس، تقول لـ «تشرين»: «الفاجعة أثّرت في الإنسان واستقراره، والوجه هو الأكثر تعبيراً عمّا في صدره، رسمت بورتريهاً من دون أيد، لا أحد يعرف متى أو أين يُمكن أن يحصل هذا، لكن الإنسان عاجزٌ دائماً أمام الطبيعة».
بعد وقوع الكارثة، وضعت حاج إبراهيم لوحاتٍ للبيع، حيث يعود ريعها لمصلحة مُتضرري الزلزال، وعلى حد تعبيرها، المعارض الفنية والمساعدة المادية والتواصل الحقيقي مع الناس، خير ما نفعله، لكنّ للفن في الكوارث أدواراً أخرى، تُضيف: «الفن يُساهم في طرح المشكلات والهموم الإنسانية، وتوجيه الأنظار إليها، كما يُمكن للفنان المساعدة بما يملك من فكر ولوحات، يستطيع أن يُمثّل المعاناة والألم لمجموعاتٍ وشرائح، ربما لا نعرفها أو لا تعنينا، لكنه قادرٌ على إيصال صوتها».
من جهته، يرفض الفنان نذير تنزكلي رسم الدمار والخوف للتعبير عن الزلزال، رغم أن المشهدية التي يُقدمها في المعرض، تُحاكي الفجيعة عبر وجهٍ صارخ بالأسود المائل للرمادي، يقول: «لا نريد توثيق الفجيعة بأخرى مُشابهة، لكن ما حدث عموماً يجب أن يدفعنا لتجاوزه، التعاطي مع الكارثة يُفترض أن يكون بإيجابية، البحث عن أي بادرة أمل ضروري جداً».
ويرى تنزكلي أن «التشكيلي كالشاعر والموسيقي، يتعامل مع الأحداث بتركيزٍ أكبر وحساسيةٍ أعلى، ولأنه جزءٌ من محيطه، يعيش الحدث ويتأثّر به، سيذهب باتجاه الحالة التعبيرية في لوحته بغض النظر عن التقنية والأسلوب، على أمل أن يكون رافعةً إيجابية باتجاه تخطي سلبيات ما يحصل أيّاً كان، عليه أن يستنهض البعد الإيجابي والحضاري في معركة الإفناء التي تعرضنا لها، وما يُوازيها».
أمّا الفنانة سلام أحمد، فشاركت بلوحتين رسمت فيهما أجساداً مُتلاصقة، تغيب عنها ملامح الحياة والحركة، نحو التصلّب والجمود، بأسلوبٍ واقعيٍ تعبيري، تقول: «في ذهني دائماً نظرات ابنتي فجر الحادثة، السقف يُوشك أن يقع فوقنا، والجدران تتحرك، المشهد لا يُوصف، بعدها لم أستطع إمساك الريشة، لكنني حاولت تجاوز الأمر بعد عدة أيام، نقلتُ مشاعري إلى الورق، وصنعت عدة اسكيتشات سريعة، خربشات مُحمّلة بطاقةٍ تعبيرية، لاحقاً بدأت تنفيذها باللون، حاولت نقل الألم العام وألمي الخاص». تتحدث أحمد عن آلامٍ لم تُصبح قديمة بعد، حتى إنها تسمع ملاحظاتٍ عن الحزن الظاهر في أعمالها، تُضيف: «الزلزال أعاد نبش ما حاولنا إخفاءه من مواجع، يبدو أن الألم يُلاحقنا».