شلل الحركة العمرانية يفاقم ضائقة السكن والإيجارات.. ولا حلول شافية في الأفق
تشرين – وليد الزعبي:
أصاب الحركة العمرانية حالة من الشلل شبه التام، وأصبح من الندرة مشاهدة تشييد أبنية جديدة سواء أكانت سكنية أم تجارية، وعلى ما يبدو أن العوامل المسببة كثيرة يتصدرها الارتفاع المهول لأسعار مواد البناء، وقلة الطلب على الشقق السكنية لانعدام القدرة الشرائية لأغلبية المواطنين المحتاجين للسكن، حتى إن الأبنية المشيدة على العظم لا تلاقي حركة إكساء من أصحابها لتكاليفها الباهظة أيضاً، وهذا ما زاد من تفاقم مشكلة السكن وضاعف أجور البيوت إلى حدود خيالية، كما أرخى بظلاله الثقيلة على ضعف أو توقف عمل الكثير من الحرف والمهن والمقاولين والعمالة على اختلافها وتنوعها في مجال البناء.
تفاقم الإيجارات
إن امتلاك محدودي الدخل منزلاً في ظروفنا الراهنة بات من الأحلام صعبة المنال لأسعارها الفلكية السائدة، فيما المعاناة على أشدها من التصاعد المتسارع لإيجارات الشقق السكنية، حيث إنها لغير المفروش منها باتت بقيم تفوق ضعف أو ضعفي دخل الموظف وأحياناً أكثر، ولا أحد يعلم كيف السبيل إلى رفع تلك المعاناة.
ارتفاع أسعار مواد البناء والأراضي أضعف جبهات العمل وانعكس سلباً على المهندسين والمقاولين والحرفيين والعمالة
نشطت ثم خبت
بعد عام ٢٠١٨ نشطت حركة البناء في المحافظة بشكل ملحوظ، حيث شيدت العديد من الأبنية السكنية, وكان أفضل النشاط في عامي ٢٠٢٠ و ٢٠٢١، ويعيد متابعون ذلك إلى أن أسعار المقاسم المعدة للبناء داخل التنظيم كانت محمولة وكذلك الأمر بالنسبة لأسعار مواد البناء وفي مقدمتها الحديد والإسمنت، كما كان هناك إقبال معقول على الشراء، حيث إن المقاول كان يبيع معظم الشقق وخاصةً منها الأرضية وفي الطابقين الأول والثاني فني بعد الترخيص وبدء الحفر مباشرة، وبذلك تصبح لدى المقاول سيولة مالية تمكنه من تشييد البناء بسرعة، وتتيح له بالتوازي شراء مقاسم أخرى والبدء بإجراءات الترخيص للبناء عليها أيضاً في متتالية تتكرر وتسير بوتائر جيدة.
لكن المشكلة وفق متعهدي البناء، بدأت بالظهور منذ مطلع عام ٢٠٢٢ بعد تفاقم حالة التضخم، حيث استعرت أسعار مقاسم الأرض بشكل كبير وكذلك أسعار مواد البناء، ما حلق بالتالي بأسعار الشقق السكنية وجعل من الصعب بيعها لقلة الطلب عليها مع ضعف القدرة الشرائية لعامة الناس، وأشار متعهدو البناء إلى أن شراء الشقق الآن محدود جداً يقتصر على ميسوري الحال داخل البلد وعلى المغتربين، حيث إن الأخيرين لا يعنيهم التضخم أو يؤثر عليهم لأن دخلهم يجاري التضخم.
ضيق جبهات العمل
لم يخفِ رئيس نقابة المقاولين في درعا شحادة الطلب قلق المقاولين من ضعف جبهات العمل الذي تسبب بتعطل ورشهم بما تضمه من عمال وآليات، لافتاً إلى أن هذا الضعف لا يقتصر على القطاع الخاص بل لدى جهات القطاع العام أيضاً، وذكر أن عمالة كبيرة تضررت من وراء ذلك وتأثر وضعها المعيشي ودفعها للبحث عن مجال عمل آخر لتأمين مصدر رزق لأسرها.
وتطرق إلى أن أسعار الأراضي المعدة للبناء ارتفعت كثيراً وخاصةً في ظل قلتها، حيث إنّ المخطط التنظيمي المعمول به في مدينة درعا -على سبيل المثال- امتلأ بنسبة كبيرة وما بقي من مقاسم ضمنه محدود جداً، مطالباً بضرورة الإسراع بإنهاء توسع المخطط التنظيمي لها، ولاسيما في منطقة المفطرة وشمال طريق طفس وكذلك في منطقة الكاشف الشمالي لكونهما تتيحان مقاسم معدة للبناء بأعداد ليست بقليلة.
وأشار إلى عدم استقرار أسعار مواد البناء، فهي لا تقف عند حدّ وبارتفاع متسارع ومستمر، وعلى سبيل المثال يصل سعر الطن الواحد من الحديد الآن إلى ٦.٨ ملايين ليرة ومن الإسمنت ٨٠٠ ألف ليرة وهو سعر كبير جداً وقابل للارتفاع، علماً أن تسارع ارتفاع الأسعار يتسبب بخسائر للمقاولين وخاصةً أثناء تنفيذ مشاريع للقطاع العام، كما أن البيع المسبق للشقق السكنية قبل انتهائها يتسبب بمشكلات بين المقاول وبين من اشتروا الشقق، وذلك نتيجة تبدلات الأسعار وارتفاع تكاليف البناء أثناء إنشائه ولأكثر من مرة.
فرع نقابة المهندسين: ما بين عام وآخر تراجعت الرخص المصدقة من ١٩٨٠ إلى ١١٠٠
الأتعاب تضاءلت
معروف أن ترخيص أي بناء لا يتم إلّا بعد إعداد ودراسة المخططات الهندسية بمختلف أنواعها من معمارية وإنشائية وكهربائية وميكانيكية وتصديقها بعد تدقيقها من نقابة المهندسين ومن ثم الإشراف على تنفيذها، وكل ذلك مقابل أتعاب تشكل مصدر دخل للمهندسين، لكن التراجع الذي حدث بالحركة العمرانية خفّض من التراخيص وعوائدها بشكل كبير، وبهذا الإطار أكد المهندس موسى أبو زريق أمين سرّ فرع نقابة المهندسين في درعا أن عدد رخص البناء المصدقة تراجع بشكل كبير، وقدم أرقاماً توثق لذلك، حيث إن عدد تلك الرخص تراجع من ١٩٨٠ رخصة عام ٢٠٢١ على مستوى محافظة درعا إلى ١١٠٠ رخصة عام ٢٠٢٢، وهو ما خفّض قيمة الأتعاب ما بين العامين المذكورين بنسبة تزيد على ٤٠٪، ويأتي ذلك نتيجة ضعف الحركة العمرانية بسبب التضخم الكبير بأسعار مواد البناء وكذلك مقاسم الأرض، لافتاً إلى أن هذا الواقع انعكس سلباً على دخل المهندسين بشكل كبير، علماً أن عدد المهندسين العاملين في المكاتب الهندسية حالياً يبلغ ٤٩٩ مهندساً، وهناك ٢١٦ مهندساً قيد التدريب وسيفتتحون مكاتب هندسية تباعاً حسب انتهاء مدة تدريب كل منهم والتي تمتد لثلاث سنوات، أي إن عدد المكاتب الهندسية يزداد فيما حجم العمل يتناقص.
قلة الطلب
إن الركود طال أصحاب المنشآت الحرفية الخاصة بالمنتجات الإسمنية، حيث بيّن رئيس الجمعية الحرفية للمنتجات الإسمنتية خالد الرفاعي أن الطلب على المواد التي تنتجها حرف البلوك والبلاط والقساطل البيتونية تراجع بشكل حادّ، الأمر الذي قلّل من دخل أصحاب تلك الحرف ودفعهم إلى تخفيض عدد العمالة لديهم ما أضر بمصدر معيشتهم، لافتاً إلى أن هذا القطاع يشغل أيديَّ عاملة كثيرة، حيث إن عدد أصحاب المنشآت الحرفية للمنتجات الإسمنتية المنتسبين للجمعية يصل إلى ٦٣٠ حرفياً، وهؤلاء يشغلون لديهم أعداداً ليست بقليلة من العمال.
العمالة تضررت
وحال تضرر العمالة في قطاع البناء لم يقف عند ما سبق بل طال آخرين، وهذا ما بيّنه المهندس صالح القيق رئيس نقابة عمال البناء والإسمنت في درعا، حيث ذكر أن عمال تركيب البلاط والسيراميك والرخام والحجر والبلوك، إضافة إلى عمال التمديدات الكهربائية والصحية والحدادة والنجارة والدهان وغيرهم من الذين يعملون في مجال البناء وهم بأعداد كبيرة جداً تضرروا كثيراً بسبب ضعف جبهات عمل القطاع الخاص حيث أثر ذلك في مصدر معيشتهم وأسرهم.
انحسار التراخيص والتسويات بدّد موارد ليست بقليلة على مجالس المدن
انخفاض حادّ
إن المثال الأبرز على ركود الحركة العمرانية يمكن أن توضحه معطيات مجلس مدينة درعا، حيث إن هذه المدينة كمركز محافظة تتصدر مشهد تجارة البناء للأغراض السكنية.
وهنا ذكر المهندس نعيم الجاحد مدير الشؤون الفنية في المجلس المذكور أن رخص البناء تراجعت بشكل حادّ، وبالأرقام فإن عدد الرخص تراجع من 100 عام 2020 إلى 78 عام 2021 وإلى 23 عام 2022، ومنذ بداية العام الجاري وحتى الآن لم تمنح سوى رخصتي بناء اثنتين، وذلك ما تسبب بانخفاض إيرادات المجلس التي كانت تساعد في أعمال الصيانة الدورية لآليات النظافة والإطفاء وتساهم في تنفيذ بعض المشاريع الخدمية.
وحسب الجاحد فإن هذا الانخفاض بعدد رخص البناء يعود إلى ارتفاع أسعار الأرض وارتفاع تكاليف مواد البناء بسبب الحصار المفروض على البلاد، وكذلك ارتفاع رسوم الترخيص بعد أن صدر القانون المالي للوحدات الإدارية رقم ٣٧ الصادر بتاريخ ٢٩ /١٢ /٢٠٢١، حتى تسويات مخالفات البناء أصبح يتم استيفاء الرسوم عنها حسب القيم الرائجة وبما يعادل تكلفة الرخصة أو ما يزيد عليها أحياناً.
هل من حلول؟
قد لا تبدو في الأفق القريب حلول شافية مع استمرار الحصار الجائر والتضخم وضعف القوة الشرائية، لكن حتى تحدث انفراجة على تلك الصعد ينبغي عدم البقاء في موقف المتفرج، إذ يمكن التخفيف من حدّة المشكلة عبر الإسراع بتوسيع المخططات التنظيمية لإتاحة الكثير من مقاسم الأرض الجديدة بشكل يخفف من لهيب أسعارها، توازياً مع التشجيع على إعادة ترميم الأحياء السكنية المتضررة من جراء الحرب من خلال دعم أصحابها بقروض ميسرة وخاصةً في مدينة درعا، ولا بأس في تحفيز انطلاقة جديدة منضبطة بعيداً عن الفساد والشبهات للجمعيات السكنية لكونه يمكن تشييدها على أراضٍ زراعية خارج المخططات التنظيمية ما يوفر كثيراً من التكاليف، لكون قيمة تلك الأراضي الزراعية لا تعادل عشر قيمة الأراضي داخل التنظيم، والمهم أيضاً إعادة النظر في رسوم الترخيص والتسويات وتخفيضها إلى الحدود المحمولة.