سياسة ولّادة مشاكل 

لا يجد أيَّ متابع لتصريحات ومواقف رأس النظام التركي رجب اردوغان، صعوبة في اكتشاف الكذب، لأنّ هذا المتابع يرى تبعات السياسة الأردوغانية، بل يمكنه أن يتكلم كثيراً رداً على ما يطلقه أردوغان.

أحدث ما أطلقه رئيس النظام التركي، قوله إنّ عدد «أصدقاء» بلاده سيزداد، وإنّ «أعداء» تركيا سيقفون عند حدودهم في نهاية المطاف، وأضاف أردوغان في كلمة خلال فعالية لاتحاد نقابات أصحاب الأعمال، بالعاصمة أنقرة: إن لدى تركيا «القدرة على تحقيق انتصارات لا يتوقعها أحد عندما نرى تهديداً لبقائنا».

كلامٌ تفوح منه رائحة الكذب والنفاق، وتبرز غايته الانتخابية واضحة ومعلنة، فتاريخ هذا الرجل ليس سوى سلسلة متواصلة من المشاكل والصراعات على المستويين الشخصي والسياسي، بل ثمة من يقول إن صداقاته وتحالفاته السياسية كانت مؤقتة، ولها هَدف واحد هو مساعدته في الصعود السريع لسلّم الحياة السياسية، والتي بدأها في ظلّ نجم الدين أربكان، الذي رافقه في جميع أحزابه الإسلامية وعن طريق أحدها، وهو حزب «الرفاه»، وتالياً لا توجد عبارة أكثر بعداً عن شخصية رئيس النظام التركي، من عبارة «صفر مشاكل»، بل إن أدق توصيف يمكن أن يطلق على سياسة أردوغان هي كوكتيل مشاكل.

نتذكر أنه عندما تسلّم حزب العدالة والتنمية الحكم عام 2002 تبنّت أنقرة نهجاً سمي سياسة «صفر مشاكل» فيما خص علاقاتها الخارجية، ورائد تلك السياسة ومنظّرها وقتذاك أحمد داوود أوغلو، الذي غاب عن المشهد، بل يقف الآن على خلاف كبير مع رأس النظام التركي.

ومع مرور الوقت والتدخل التركي السافر في الشؤون الداخلية للعديد من دول المنطقة، وضع نظام أنقرة في موقف بات معها مصدر المشاكل، وقد وصلت الأمور غير مرة إلى التهديدات بحرب وخاصة بين أنقرة وأثينا لولا تدخل حلفاء اليونان الأوروبيين لفرملة التحشدات التركية.

كما يعرف الجميع ماهية التدخل التركي في أحداث المنطقة العربية، والاستغلال لما حدث 2010 فيما سمي «الربيع العربي» إذ تخلّت تركيا عن نهج وسياسة صفر مشاكل وباتت تتدخّل بشكل سافر في شؤون الدول العربية على المستويين الدبلوماسي والعسكري، محمولة بطموحين، تمثّل الأول في إمكانية فرض ولايتها على الدول التي نجحت فيها القوى الإسلامية، ولاسيما «جماعة الإخوان المسلمين»، من الوصول إلى السلطة، أما الطموح الثاني فتمثّل بالاشتغال على ما اصطلح تسميته «العثمانية الجديدة» التي حملت معاني إمبريالية وفرضت أشكالاً من الوصاية وأفضت إلى تأليب دول ومجتمعات عربية على تلك السياسة، وكل ذلك في سياق السباق على ريادة المنطقة ورسم صورة مستقبلها.

هنا بانت التوجهات التركية الأردوغانية على حقيقتها، ولم تعد الأكاذيب والحجج مخفية أو مستترة على شاكلة البحث عن أسواق جديدة للصناعات التركيّة الناشئة، ورفعاً لـ«عتلة» العلاقات الاقتصادية والتجارية معطوفة على مساحات الثقافة والتاريخ المشتركين، وإذا كانت استعادة سياسة صفر مشاكل في هذه الغضون قد عادت إلى متن الخطاب الإعلامي التركي إلّا أن هذه السياسة لم تعد تملك ذلك الإيحاء الإستراتيجي بعد أن فقدت دول المنطقة الثقة بمطلقيها، إلّا أنها قد تكون صيغة مفيدة لأجل التكتيكات الجديدة التي تخوض فيها الدبلوماسية التركية.

وتقف الحسابات الداخلية وكذلك الخارجية وراء السياسة التركية الراهنة، فالأزمة الاقتصادية والحاجة إلى روافد اقتصادية تساهمان في تدعيم موقف حزب العدالة والتنمية قبل الانتخابات، والحرب في أوكرانيا وما استتبعه من خروج تركيّ عن بيت حلف «ناتو» وتفضيلها دور الوسيط على دورها الذي يقتضي الوقوف إلى جانب حلفائها.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار