حسام السعدي مهتدياً إلى البحر على مرمى خيبتين وفرح
راوية زاهر
(بالماء سأكتب)؛ مجموعة شعرية للشاعر فؤاد السعدي الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب ٢٠٢٢م.. والشاعر السعدي من مواليد صلخد، محافظة السويداء، يعمل موجهاً اختصاصياً للغة العربية، وله العديد من القصائد والدراسات النقدية المنشورة في الصحف العربية.
(بالماء سأكتب)؛ عنوان المجموعة والعتبة الأولى للنص التي يجب علينا تخطيها بسلاسة ورفق.. والسؤال الذي تفرضه هذه العنونة، أيّ لغة سيخطّها لنا هذا الشاعر عندما اختار مادة كتابته الماء بدلاً من الحبر؟ !، وأيّ حروف هذه التي سيخطها الشاعر بالماء أو حتى على سطح الماء؟ هذا العنوان المتفرد سيقودنا لا محالة إلى لغةٍ ليست ككل اللغات، وحروف لا يشبه همسها همس ما اعتدناه من هسيس الحروف، ربما عناصر متعلقة بكيمياء فلسفته المترافقة مع السحب التي هجرت نفسها عطشاً في اهتداءة خاصة إلى البحر مولدة ألف ساقية، ومحاربة كلَّ قوافي الضجر..
واللافت في هذا العنوان هو تقديم الجار والمجرور على الفعل، وما ذلك إلّا إشهار من الشاعر لأهمية المتقدم وهو الماء على الكتابة ذاتها.
فعلى هواجس الخيبات والوداع، الفرح والأمنيات، وما تحمله تكهنات الوقوف على بوابات العام الجديد، والمترجل؛ تقف حروفه تنشدُ الأمل، وترفع نخب كأسه المترع من دنان الخمر المعتق، مروراً بالكلمات كعناوين لوميضٍ يلمع بريقه في الخواتيم مغلفاً بالشهوة والظلال ولهفة الأمداء.. وليس انتهاء بدمشق الياقوت موزع العشق فيها على مساحات حروفها المصطفة كقرط يتدلى من جيدها على عنق الحروف:
دمشق
د :
دمي في دمشق ضياءٌ
يقيم صلاته..
م:
مولهة تمتطي صهوات المجيء
توشي جبين الشآم.
ش:
شموسٌ تطلّ
تدني كؤوس الشروق
من الثغر
ق:
هي القادمة،
تعلّم هذي الرياح الهبوب
وتتلو على سمعها أمنيات الحقول..
كلُّ ذلك بلغةٍ، شاعرية، مشبعة بالتخيل والجنوح خلف الرؤى الحالمة.. تحمّلُ الألفاظ دلالات معنوية تتفق والحالة الشعورية التي يعيشها الشاعر.. أضف للغة الوصف المترفة.. سواء في وصف مسيرة الخمرة، أو النقش، أو حتى توصيفة لحركة الموجة والبحيرة
والانزياحات اللغوية التي تتدلل فيها المعاني وتحملُ السياقات إلى عوالم جديدة بصورٍ مبتكرة غير مطروقة من قبيل: (تخرج من شرانقها الثواني)، فتشبيه الثواني بدودة القز صورة فريدة وجميلة.
“قطرة قبل أن يسرق البحر ألوانها
خمرة قبل أن يسجن الدّنّ أسرارها”
صورتان تحملان بعداً تأويلياً عميقاً يخضع للظواهر الفيزيائية، ولجمالية المشهد.. ولا تخلو نصوص المجموعة من فيض الصور والاستعارات والتشبيهات التي تسافر بنا إلى فضاءات تخيلية جديدة وساحرة.
” تنام الأمكنة” استعارة مكنية، ومنها أيضاً:
” تنهضُ الرغبة في السراب
خائفة
مرتجفة”،
“أذيال الصمت”،
” ازرقاق الأماني” كناية عن الفرح،
” تراتيل موج
يسافر في
خاطر العاشقين..” استعارات تلقي بنا في أحضان البديع والجمال..
“حينما
بحدائق صمتي تمرّين؛
مسّي شرودي برفق،
تهاوي كماء،
ونامي كعصفورة هاربة..”
نصٌّ مميز فيه وصف لشيء حسي حدائق الصمت. بشيء معنوي.. كما مالت الومضات الشعرية إلى الدهشة والمفاجأة في خواتيمها تاركة المتلقي أمام صدمة لذيذة لا ينزاح أثرها بسهولة.. وقد برز المعجم اللغوي بحقله الدلالي والمعنوي للخمور، وما قد تحمله من تأثير مباشر على النفس في شرودها ونشوتها وفرادة وقعها على الروح الساكنة عمق العناصر.
(الخوابي، الأعناب – الكؤوس – النبيذ – الدنان).. أضف لبروز الحقل المعجمي للرفعة والعلو التي تعكس الحالة العالية لذات الشاعر.. (السماء.. السحاب.. الغيم.. النيازك.. النجوم. سرو – أرز … الخ):
” هل تظهر المرآة منك
سوى اشتهائكَ أن تكون
نيازكَ وشهباً؟ ”
استخدم السعدي الرمز في أكثر من مكان.. فذكر طائر العنقاء والقيامة من تحت الرماد..ولكن هنا يرافقها شيء من الملل واليأس :
“شكّل الذرات من طفراتها،
وانهض على أشلائها
عنقاء من نار التشظي..
ملّت الأيام من تكرارها
وركامها.”
برز استخدام الشاعر بكثافة للجملة الاسمية وقدرتها على تحميل المعنى أكبر قدر من الطاقات الشعورية الخلاقة.. كذلك استخدام الفعل المضارع بوضوح للتأكيد على استمرارية الحدث.. وقد تنوع الأسلوب بين الخبري والإنشائي
“أتدرين؟
حين تفتّح صدرك؟
هل تعرفين؟
أي لون للسماء؟”
إنشاء نوعه استفهام..
” تتساقط الأيام في لج الغروب
تفّاحها يدع الغواية”.. خبر ابتدائي.
كما برز كذلك التضاد ليظهر الحالة النفسية الغارقة في التناقض في مشهدية دينامية جذابة:
“أسرارنا لو تعلمين
مجلوّة أو مضمرة.”
مال الشاعر أيضاً إلى استخدام ضمير المخاطب والمتكلم في محاولة منه إلى إشراك المتلقي في عملية الإبداع:” كلماتي..
أنتَ حين تخرق ساعاتك الواثبات
جدارك”
لينتهي الكتاب بمجموعة ومضات جميلة ومميزة وسنختم بشيءٍ منها، تحت عنوان خوف :
“يفد الكلام إلى القصيدة
ساكتاً..
تئدُ المدائن بوحَه
تتثاءب الأرياح في شفق الغروب
وتكفّ عن إغوائها امرأة..
يغور النسغ في جذرٍ
تغادر ريشة فنانها
تكسو أنامله السكينةُ
تنزوي في صمتها..”