طهران صارم في إصغائها لـ”ثرثرات الحنين” ولعبة عدّ الأصابع
راوية زاهر:
بين سنة 2012، و2022؛ وعلى إيقاع قصيدة نثر؛ تُصدر الشاعرة طهران صارم رابعتها الشعرية (من ثرثرات الحنين) الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وذلك بعد: (لحن الغريب، بيدر فواصل، وعلى مرمى رصاصة).. ولأنّ الجزء يُمكن له أن يُعطي بعضاً من ملامح الكل للنتاج الإبداعي للشاعر، سأكتفي بقراءة إحدى قصائدها التي تقولُ فيها:
“اليومُ هو يوم فراقنا؛
أعيد لك وردتك وتُعيد لي وردتي،
ولكن نحن لم نتبادل الوردَ فقط،
نحن تبادلنا الأصابع..
لي أصابعك، ولك أصابعي..
والآن سنقضي وقتاً طويلاً
في عدّها..
ولن نتذكر أيّها لك
وأيّها لي..
ربما أنسى واحداً
عندك وتنسى واحداً عندي؛
فنجلس،
ونعيد القسمة من جديد،
وربما سيتأخر فراقنا
ليلة أخرى أو ليلتين،
وربما أسافر هذا العام
ويتأخر دهراً
وتضيع يدك معي،
وتضيع يدي معك..”
نص بحكائية متفردة، يطرق باب الجمال بانسيابية نهر، وحرية طائر، بعيداً عن القيود والأوزان والقوافي، ترسمُ الشاعرة طريقها منسابة وراء ألفاظها البسيطة وتراكيبها الموحية لتحيك لنا نسيجاً لغوياً مدلل العبارة، فاره المعنى.. ينتمي النص إلى فن قصيدة النثر مُقدماً لمؤلفته حرية الغوص والسير في فكرها الخاص، إذ لا قوانين أبدية ثابتة تحكم هذا الفن، فهو متجدد تجدد الرؤى والأفكار عند المبدع، إذ إنها قادرة على احتوائه بكل نظامه، تشويشه، وتوهجه.. إذ إن هذا الفن المثير لكمائن الجمال عند المبدع والمتلقي معاً نراه يكتفي بمادته وموضوعاته مستمداً هيئته من بنية جملها.. فقد تعددت الأصوات الشعرية في هذه القصيدة، وأحالت النص إلى بنية جديدة وإشارات تنطوي ثناياها على علاقات متنوعة فيها الإثارة والإدهاش ما يجعلها تثير المتلقي وتجذب انتباهه.. منتسبة إلى عالم اللغة والدلالة في آن معاً.. نص بعيد عن الديكورات والوزن والقافية، ونمط التفكير فيه غير خاضع للقوانين؛ لغة متجددة دوماً لمنح النصوص جمالاً وأسساً مستمرة للبقاء، وقد استطاعت إستراتيجية النص نقل ما يجيش في صدر الشاعرة من مشاعر وأحاسيس وتقلبات وثنائيات ضدية إلى فكر المتلقي.
وأمام حكائية النص نقف عند لفظة (اليوم) التي بدأت بها الكاتبة، وهي دلالة لزمان يوحي بالتحديد.. كعاشقين قررا تبديد الوعد بالبقاء معاً.. وكعادة المفترقين في إعادة الخاصيات المادية بينهما؛ من هدايا، رسائل، محتويات ورقية بريدية، ورود معتقة، ومشاعر وصلت مرافئها الأخيرة.. لكن الكاتبة أدهشتنا بابتكارات جديدة لما يمكن أن يتبادله العاشقون عند الفراق؛ فكانت ثورة اللفظ والأصابع، وعملية الخلط وصعوبة الفرز.. ما سيستدعي استحضار وقت إضافي فأدخلتنا الكاتبة في إشكالية الزمن، وتركته ملتبساً لينتقل هذا اللبس إلى حالة التداخل الشعوري، والنفسي والجسدي الذي سيطر على الحالة العامة للنص، وأثارت عند المتلقي شكوك إمكانية الفراق أو ربما إمكانية إخضاعه للتمديد.. فتقودنا الكاتبة بهذه الدقة الإبداعية إلى إعادة القراءة من جديد، والوقوف بإرباك أمام معضلة التوحد الروحي والجسدي للعاشقين.. ويبدأ إعمال عقل المتلقي ساعياً للحظة التوهج والإشراق في إيجاد حلٍّ لهذه المعضلة العشقية المربكة.. وقد تبين أن زمن الفراق قد يتوقف، فكلا العاشقين يرفض التخلي عن غنائم عشقه.. (كان مقرراً اليوم.. تمدد الزمن.. ليوم لليلة، لليلتين.. لعام.. لدهر..) من دون تبادل، فحرب العشق لم تنتهِ بعد، وهدنة الفراق مازالت قائمة حتى تتم صفقة تبادل الأسرى بين العاشقين.
تميز النص بوحدة عضوية أسكنته بوتقة الحكاية بزمانها ومكانها وأحداثها وشخوصها.. مادته الأساسية النثر بعيداً عن الإطناب والاسترسال، إذ أتاحت له توظيف اللغة لأغراض جمالية فنية بعيداً عن الشرح والاستفاضة بالتعبير.. كما قام النص على الموسيقا الداخلية التي نشأت بين مفرداته، إذا اعتمدت الكاتبة الأحرف الهامسة الملائمة لحالة الفراق وحساسيتها: (السين، الهاء، الصاد، التاء.. إلخ) فالنص قابل لتعديل الشروط ما حدا البعض لوصف قصيدة النثر بإسفنجة البناء والتركيب، فهي خلق حر لا أهداف فيها غير رغبة مؤلفها وفكره. إيحاءات النص لانهائية تقودنا إلى فتح باب الاحتمالات على مصراعيه، وقد أدهشتنا الكاتبة باستخدامها لأسلوب المفارقة متنقلة بين الجملة والفقرة لسحب القارئ بإدهاش لإتمام ما يثير كل ملكة تفكير عنده، وكان الإيحاء والتوهج سمتان بارزتان في كل مفاصل النص، أضف إلى تبادل وظيفي للحواس، ما يدفع القارئ إلى الاشتغال لما يوحيه الشعر من صور.. النص كذلك مفعم بالصور الموحية وغرائبيتها اللافتة والتي حولتنا إلى دلالات جديدة (تبادل الأصابع، نسيان الأصابع، قسمتها، تضيع يدي معك) تداخل المادي بالمعنوي. فما أمكن ملاحظته هو طي الزمن وتكثيف الشعور، فيما اللغة الموظفة قادتنا إلى التيقن أن غرض قصيدة النثر جمالي فني بحت.. فقد جاءت اللغة بسيطة جداً مكثفة وموحية..
استخدمت الشاعرة الفعل المضارع؛ ليخدم استمرارية الحدث، فالفراق ليس كامل الحدوث وإنما هو مشروع فراق، الزمان أمامه مفتوح تماماً ومستمر.. كما نوّعت باستخدام الضمائر من غائب إلى حاضر إلى متكلم موظفة لأسلوب الالتفات، وإن دلّ الأمرُ على شيء، فعلى حالة الإرباك والتردد والخوف حتى من فكرة الفراق، فيما خيّم الشعور العاطفي الذي على النص هو (الحب) وأدوات التعبير عنه كثيرة منها التراكيب مثل: (لي أصابعك.. ولك أصابعي)، (تضيع يدك معي، وتضيع يدي معك).. النص باذخٌ وموحٍ، نسج بجمال وحرفية عالية.