«الوحيد»
«محمد وحيد قزق» لم يكن مُجرَّد مهندس ديكور للمسرح، بل طاقة جمالية نادرة، ويمتلك من المحبة ما يستطيع أن يجعل لقماشةٍ سوداءَ في عُمْقِ الخشبة بلاغةً قلَّ نظيرها، كما أن بإمكانه تغيير مناخات الطقس المسرحي بفكرة إبداعية ذكية، وفوق ذلك فإنه مُفعَم بالمعنى، وقادر على ابتكار الحلول بما قَلَّ ودَلّ، وكأنَّه شاعِرُ الاستعارات المسرحية، ومُبْدِعُ الكنايات، ومُكَثِّفُ اللَّحظةِ الخَلَّاقُ في دوزنة أبسط الأشياء، وتحويلها إلى مغازٍ وتفاصيلَ لا تُنسى.
مرَّةً حدَّثني عن الفكرة التي ابتكرها كي يُسْقِطَ المطر على خشبة مسرح القباني من دون أن يكون للماء المنهمر عليها أي أثرٍ سلبي، من خلال مزاريب خاصة، بحاجة إلى دقَّةٍ هائلة في التصميم والتنفيذ، فكان بذلك الغيمةَ ودموعها.
وفي أخرى شاهدتُ كيفَ حوَّل ملجأً في إحدى الحدائق العامة إلى مكانٍ مُبهِرٍ لعرض مسرحي، فكان شاهداً على ثراء مخيلته، وجماليات فِكْرِه الرَّافض لما يراه الآخرون مُستحيلاً، فكان هو الملجأ لكل من يَبْتغي الدَّهشة بأنقى حالاتها.
ولأن «وحيد» يمتلك روح طِفلٍ، ومُخيِّلةَ ثائرٍ، مَدَّ مرةً جِسراً من الخَشَبَةِ إلى مَمَرَّات المسرح، مُحقِّقاً طريقاً فريداً أمام الممثِّلين، لإحقاق الجَمَال المُبتغى في المعنى والمبنى، فكان جسراً لرفاقه ولنا نحن المتفرِّجين والنُّقّاد, وفي مرَّةٍ أخرى أبهرنا، بِهِمَّةِ حدَّادٍ عتيق، بعدما حوَّل حافلةً قديمةً مُهْمَلَةً إلى خشبَةٍ تُحقِّقُ شروط العَرضِ الآسر في حديقة المعهد.
وكما أنه حارَبَ سرطان جَسَدِه بنفسه، من دون أدوية ولا جُرعات كيميائية، وأثار استغراب الأطباء، فإنه فعل الشيء ذاته بالأغراض التي بين يديه، إذ يُحيلها دائماً إلى أشياءَ حَميدة، وهو ما كان يتمنى أن يقوم به كلُّ مُحبِّي المسرح، الذي كان ينظر إليه على أنه المكان الأكثر جَمالاً في الدُّنيا، والذي ينبغي ألّا تُلوِّثه الأفكار والأشخاص غير الملائمين لنصاعته وصفائه.
حتى الآن لا أُصدِّق غِيابَكَ يا «وحيد»، وما زلت أنتظر دعوتك لي إلى عُروضِ مَحَبَّةٍ كثيرة، وكؤوسٍ مُترَعةٍ بفيضِ الجَمال.