السّاعات

بقيت معلقةً على الجدار بإطارها الخشبي متماوجِ الحواف رغم أنها صامتة منذ عشر سنوات وعقاربُها تشير إلى الواحدة إلا ربعاً وعلى رأسها كوخٌ صغير ألصقته يدُ صانعٍ حاذق وتركت تحته دائرةً تتجوّل فيها عقارب الساعات والدقائق والثواني، حتى إذا توقفت بدت كأنها لوحة من نسيج اللوحات المتنوعة تكسرُ رتابة الجدار الذي تناوبت عليه الألوان الباهتة، أعواماً إثْرَ أعوام!
من أهداني هذه السّاعة الجدارية لا بدّ أنه تجاوز عشرات الأشكال في محل العرض ليختارها دون صندوق زجاجيّ وبندولٍ ينوس يميناً ويساراً، أو بطائرِ وقواقٍ يخرج على رأس الساعة ليندَهَ ثم يختفي، أو تلك المسطّحة كلوحٍ أصمّ تدبُّ عليه العقارب دون ظلال، أو المزخرَفات بالموزاييك الرّتيب، ليأتيني بها، صديقةً غيرَ جافلة، لأثاث منزليٍّ اخترتُه أليفاً للعين والذّاكرة!
في غرفة النوم بجوار مصباح القراءة منبّهٌ صغيرٌ مستطيل بشريطٍ مذهّب، لطالما نال قسطاً من منديل مسح الغبار، يطالعني بصمته بعد طول نسيان أو إهمال، وشريط علبة المدَّخرة متيبّس في فراغها، والعقربان متجمِّدان منذ زمن غير معروف، ورغم التوقُّف عن وظيفته بقي في مكانه منذ كان يقرع في الخامسة إلا ربعاً صباحاً، كيلا أتأخّرَ على دوام الإذاعة في فترة الفجر، ولم يتزحزح رغم مرور الأيام والشهور والسنين وتحوُّل الإذاعة إلى صوتٍ يبثه المذياع على وسادتي دون التردّد إليها في فترات الليل والنهار!
على المكتب منبّه فستقيٌّ صغير كان يتكتك راصداً وقت كتابة كلّ صفحة من مقالة أو برنامجٍ إذاعيّ، فأعرف أن مسوّدة الورقة تساوي ربع ساعة زمنية يشير إليها العقرب الفوسفوريّ المشرق ببريقه، لكنه هو الآخر صمت في زمن غير معلوم! وفي أحد الأدراج ساعتا يد دقيقتا الحجم، عثرتُ عليهما حين كنت أرفع الأقلام التي جفّت دون استخدام أيام الحرب الإجراميّة علينا!

كلُّ هذه السّاعات كانت تواكب الحياة كأنها الأنفاس! هذه الساعات كانت كالطّبقات الاجتماعيّة، منها الثريّ المذهّب المزين بالماس والزّمرد والياقوت، ومنها الدّقيق رغم معدنها غير الثمين، وأغلاها انتسب إلى جنسيّة معروفة في السوق العالمية، ودخل في مصاغ الأعراس مع المجوهرات، والهدايا الاستثنائية، وهي تحظى بمحلات فاخرة وطريقة عرضٍ كما في سوق الصّاغة، حتى حلّ زمنُ الساعة البلاستيكية الرقمية الرخيصة التي تُباع على الأرصفة، وهو زمنٌ أقلُّ مضاضةً من هذا الزمن الذي توارت فيه السّاعات بكلّ أشكالها وأزمنتها، فاتحاً الطريق للهاتف المحمول، يومض ويؤقّت وينبّه و”يذكّر” وهو يعجّ بصخب خصائصه وتنوّعها السّلبيّ، طاوياً أزمنةً كانت هادئةً مأنوسة بدبيبٍ خافت ومحطّات ستفتقدها الأجيال، وتستغرب الحديث عنها في زمنٍ ليس ببعيد!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار