حكاية الجماليات.. الأنواع الأدبية نشأة وتطور ثم تشابك وتعالق وتفرّد

الحرية- على الرّاعي:
يوم كتب “ك.فانسان” كتابه (نظرية الأنواع الأدبية)، منذ ما يُقارب المئة سنة (نقلهُ إلى العربية عبد الرزاق الأصفر، صدر عن وزارة الثقافة).. لم تكن الأنواع الأدبية بهذا التعدد، وبهذا التداخل، مع ذلك يُقدّم الكتاب شرحاً وافياً لنشأتها، ونموّها وتفرعاتها وتطورها، ومن ثمّ اكتمالها، وزوال بعضها.. والمتابع، بعد قراءة الكتاب، سيتعرّف على الكثير من الأنواع الأدبية، التي كانت حاضرة بقوةٍ ذات حينٍ من الدهر، ثم اندثرت، أو اندغمت في أنواعٍ أدبية أخرى، أو تطورت إلى أنواعٍ أدبية جديدة، كما سيتلمس قارئ هذا الكتاب بعض الأنواع الأدبية التي شكلت إرهاصات لأنواعٍ أدبية معاصرة..

البداية من الملحمة
فالكتاب – على ما يرى المترجم الأصفر- بحثٌ منهجي، في الأنواع الأدبية، يعرضها من منظور التطور الطبيعي، فيعالجها من حيث الأصل والنشوء والأجناس والفروع، والمقومات التقنية والفنية، والتاريخ التطوري خلال العصور بدءاً من عهد الملحمة اليونانية إلى العهد الروماني فالكلاسيكي الفرنسي في القرن السابع عشر والتاسع عشر، وانتهاءً في العشرية الرابعة من القرن العشرين مع بداية الحرب العالمية الثانية..
و.. لأن الأنواع الأدبية لم تكن بهذه الكثرة اليوم -كما أسلفنا- فقد قسّم “فانسان” الأدب إلى شعرٍ ونثر، الشعر بدوره قسمّه حسب اتجاهاته إلى أربعة أشكال: الملحمي، الغنائي، المسرحي، والتعليمي، فيما أجناس النثر كانت: الخطابي، التاريخي، الروائي، التعليمي، والرسائل.. هذه الأنواع يعرّفها بأنها أشكالٍ عامة وفنية للفكر، لها مميزاتها وقوانينها الخاصة، وهي تؤلف زُمراً تندرجُ ضمنها أعمال النفس الإنسانية الشديدة التعقيد والتنوّع.. فيما يُعرّف تطورها بأنه سلسلة الأشكال التي يتخذها جنسٌ أدبي كالملحمة أو المسرحية تحت تأثير العبقرية الأدبية أو الحضارات المختلفة، وتأتي مهمة المذهب التطوري في أن يصل بين هذه التغيرات، وبين كيفية ولادة بعضها، كما يُجمل تطور الأدب في ثلاثة مناحِ: تطور كلُّ نوعٍ على حدة، ونظام التعاقب والتولد فيما بينها، وتغيّر الأشكال في الأنواع حيث يموت نوعٌ ليولد نوعٌ، أو أنواع أخرى.. على سبيل المثال “التراجيديا” نشأت في الأساس من شعر المديح والتمجيد اليوناني، وهي عبارة عن أناشيد غنائية تحتوي فصلاً عن بذرة التراجيديا المتمثلة في حياة (ديونيزوس)، عنصراً ثلاثياً من القص والغناء الساخر، وقد تخلصت التراجيديا على يد (أسخيلوس) من العنصر النقدي الساخر، لكنها بقيت محافظةً على الطابعين الملحمي والغنائي، أي أن العنصر الدرامي بقي فيها حبيساً بين جنسين مجاورين، ولما جاء (سوفكليس) تقلص على يديه الجانبان الملحمي والغنائي لصالح الدرامي، وعلى يد (أوربيس) اقترب الحوار من لغة الحديث العادي، وعلى يد الشعراء الكلاسيكيين تمّ حذف العنصرين الملحمي والنقدي، ومن بعدهم مرت التراجيديا بتحولاتٍ منها الرومانتيكية، ولم يقتصر الأمر على انفصال الكوميديا واستقلالها عن التراجيديا، بل تفرعت عنها مشكّلةً أنواعاً جديدة.. فيما تعاقبت عصور الشعر الأربعة على الشكل التالي: العصر الملحمي، وكنت الملحمة دليل يقظة المجتمع على الحياة، وعصر المسرح الشعري الذي كان دليل دخول الفرد والمجتمع عالم التفكير، وأما عصر الشعر التعليمي فجاء كدليل على إفضاء الفرد والمجتمع إلى عالم العلم، وعلى عكس ما يمكن أن يتصور، فقد تطور الشعر قبل النثر، وقانون الأسبقية، عام لدى كلِّ الأمم، ففي اليونان عاش (هوميروس) قبل (هيرودوت) بخمسة قرون.. وفي فرنسا سبقت أناشيد البطولة والحماسة خاطرات (جوانفيل وفرواستار وكومين)..

الشعر كان سبّاقاً
وإذا كان الشعر سابقاً النثر من الناحية الأدبية، فلا يعني أن الأول يختفي حين يأتي الثاني، بل أنهما يتعايشان، فالشعرُ خالدٌ لأنه يلبّي حاجتنا إلى المثالي.. وفي تعريف الملحمة، يذكر (فانسان)، إنها شعرٌ قصصي بطولي قومي غرائبي، هي شعرٌ لقيامها على التخيّل القوي الذي يستحضر عالماً ماضياً بكلّ حركته ومنتهى تنوعه، وهي قصة لأنها تروي حوادث متعاقبة، أي أن عنصر القص هو المهمين فيها، ذلك أنها التاريخ الخرافي للماضي، والشعراء الملحميون هم مؤرخو الأمة الغرائبيون..
في النثر سيصنّف “فانسان” الكثير من الأنواع الإبداعية على أنها أدبية، وهي لم تعد كذلك اليوم، وأن تشابكت، أو تعالقت معها في بعض الخطوط، منها التاريخ، الذي يجد له مقصدين: عامٌ جداً، عرض التغيرات التي يخضع لها كائنٌ ما، منذ أصوله إلى وقته الحاضر، والتاريخ بمعناه الخاص الذي هو علمُ الصيرورة لأنه لا يدرس الشيء في ذاته بقدر ما يدرسه في تكوّنه وتحولاته، والتاريخ بمعناه الدقيق هو العرض الصحيح والتفسير الفني للحياة الاجتماعية، وهو عملٌ قومي كالملحمة التي تفرّع عنها، ومن هنا هو ليس علماً محض مجرد من الحركة واللون، إذ لابدّ له من الفن الذي يتجه به إلى الجمهور، وهو يوجد في جوهره في النظام والحياة.

وبالفن يكون التاريخ إحياءً متكاملاً للماضي بفضل التخيّل والحساسية، ومن هنا كان أن اشتق منه فروع عديدة: الترجمة الفردية، وهي قصة حياة الفرد، والمذكرات، والمرسلات، والدراسات المتخصصة..

الرواية والتشابك مع التاريخ
من الأنواع التي أخذت حيزاً واسعاً من الكتاب، كانت الرواية، التي تشابكت مع التاريخ حتى القرن السابع عشر وخلاله تمّ تحديدها نوعاً أدبياً خاصاً وهي القصة النثرية فيها الكثير من الخيال، لكن يستعير الكاتب أحياناً أحداثه وشخصياته من التاريخ أو الواقع المعاصر، وقد مرت بمرحلتين: البدئية، أو مغامرات الرومانسية والفروسية، والرواية المعاصرة.. في البدء كانت حكاية لمغامرات غير عادية محورها الحب.. وهذا ما جرى عليه الأدب اليوناني حتى نهاية القرن الأول الميلادي، الرواية إذاً كانت بذرة في رحم الملحمة، ومن هنا لم تأخذ مكانتها في الماضي كما اليوم، وإنّ إثبات تحوّل الملحمة إلى الرواية لدى أمة من الأمم يعني أن الحاجة إلى القص واحدة، ولكن هذا الشعب صار عامياً وعلى جانب من الدعة، ثمّ تظهر القصة القصيرة، التي هي حكاية من عدّة صفحات، وهي بحجمها بالنسبة إلى الرواية، مثل إحدى خرافات (لافونتين) بالنسبة إلى إحدى ملاهي (موليير)..

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار