سورية الحرة وخريطة جيو- سياسية جديدة للمنطقة.. إيران إلى خارج الجغرافيا والاقتصاد
الحرية – مها سلطان:
عملياً، بات بالإمكان التنبؤ – على الأقل- بترتيبات نصف خريطة جيوسياسية للمنطقة، رغم أنه لم يمضِ سوى شهر واحد فقط على الحدث السوري الذي تربع على قمة تصنيف الأحداث التي هزت العالم في العام الماضي 2024 والتي ستقود حتماً إلى انزياحات قاريّة وليس إقليمية فقط.. وليس في هذا مبالغة، فهذه قراءة عالمية لسورية الجديدة/الحرة، ولمتوالية التطورات التي ستبدأ وتتلاحق، لتتقدم بالتوازي خريطة جيو- اقتصادية جديدة ستكون سورية في القلب منها.
لا نقول هنا بانجلاء كامل لحالة اللايقين التي سيطرت على المنطقة منذ عام ونصف العام تقريباً (ما بعد عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023) ولكن بالإمكان القول: إن المنطقة تجاوزت هذه الحالة بعدة خطوات بعد تحرير سورية، ولذلك يمكن أن نرسم خطاً بيانياً لمتوالية التطورات المتوقعة في المرحلة المقبلة.
هذا الخط البياني ينطلق من قاعدتين أساسيتين أرستهما سورية الحرة: الأولى حالة الاستقرار التي برزت وتعززت داخلياً بسرعة قياسية مشهود لها، وبما قاد إلى تثقيل رصيد القيادة الجديدة التي ناضلت وانتصرت وحظيت باحتضان السوريين وثقتهم، وضمن حالة الاستقرار هذه برزت عملية التأكيد على المصالح المشتركة ما بين سورية والمحيط العربي ومجمل الإقليم.
بدا واضحاً جداً التقاء المصالح حول سورية الجديدة والرغبة في التعاون وبما يعزز حالة الاستقرار في سورية باعتبارها مصلحة للجميع، وهو ما ردت عليه القيادة الجديدة بالمثل، بإطلاق مسارات ترحيب وتعاون باتجاه الدول العربية والأطراف الإقليمية، وعلى المستوى الدولي، و ما زالت القيادة الجديدة تعزز هذه المسارات بزيارات واتفاقات وقرارات وتصريحات، وتسعى بحكمة واقتدار لاستقطاب حالة من المساندة والمؤازرة للمساهمة في إعادة البناء والإعمار، وتذليل المعوقات والصعوبات في سبيل ذلك، وعلى رأسها السعي لإسقاط العقوبات المفروضة على سورية، خصوصاً خلال سنوات الحرب الـ14 الماضية، بفعل ممارسات النظام البائد وسياساته الاستبدادية في الداخل، والعدائية في الخارج (باستثناء من كان يسميهم الحلفاء وعلى رأسهم النظام الإيراني)، وقد حققت القيادة الجديدة خطوات مهمة على طريق إسقاط العقوبات وصولاً إلى إزالتها بالكامل، بعد قرار الإدارة الأميركية مؤخراً تخفيف بعض من جوانبها، والمساعي على المستوى الأوروبي لإلغائها.. وهذا ما ينظر إليه الشعب السوري بارتياح كبير، وصولاً إلى تأكيد قناعته بصوابية البوصلة الجديدة، ونجاح الخيارات والتوجهات المستقبلية للقيادة الجديدة.
أما القاعدة الثانية التي أرستها سورية الجديدة الحرة، وهي على المستوى الإقليمي، فتتمثل في حالتين: فك ارتباط، وإعادة ارتباط، الأولى قادت إلى الثانية، أو كلتاهما سارتا معاً، لا فرق كبيراً، بالنظر إلى المكاسب والمكتسبات المُنتظر تحقيقها.
بالنسبة للحالة الأولى تتمثل بشكل أساسي في فك الارتباط مع النظام الإيراني الذي طالما مثل بؤرة اضطراب وتوتير في المنطقة، خصوصاً على مستوى الدول العربية، علاقاتها والتعاون بينها، وتقسيم العرب عربين، لم يعد هناك ما يسمى «إيران في سورية» وهو ما اعترف به النظام الإيراني صراحة ومن رأسه شخصياً ومباشرة، المرشد علي الخامنئي، لا يخفى أن النظام الإيراني حاول المهادنة مع القيادة الجديدة واستمالتها (عبر مهاجمة النظام البائد ووصفه بالفاسد وبأن الشعب هو من أسقطه باحتضانه القيادة الجديدة).. وعندما باءت مساعيه بالفشل ارتد إلى البؤرة نفسها، أي التوتير والاضطراب، مضافاً إليها محاولاته التحريضية ضد سورية الحرة، والحديث عما يسميه «خطرها» الداخلي والإقليمي، ولا يزال هذا النظام ينفث رسائله المسمومة ويسعى لإشعال نار الفتن والفرقة والتشويش، لكنه حتى الآن لا يحصد سوى النتائج العكسية الكارثية عليه، حيث إن السوريين وقيادتهم الجديدة متيقظون، متأهبون، ولن يسمحوا بمرور مخططات الفتنة والتفريق.
يدرك النظام الإيراني يقيناً مطلقاً، أن اندحار النظام الأسدي عن سورية، قاد إلى اندحاره، ليس عن سورية فحسب، بل عن كامل الإقليم، وهو يجلس متفرجاً على توالي خساراته لمواقعه في المنطقة (ودولياً لاحقاً) وهو وإن كان يتعنت متمسكاً بلغة التلويح بالقدرة على قلب النتائج واستعادة زمام المنطقة إلا أن الوقائع على الأرض تكذبه، وقريباً ستجعله ينكفئ متحسساً رأسه بصورة أكبر، وصولاً إلى مرحلة التنازل والتفاوض على سلامة رأسه فقط.. هذا إذا قبل (الطرف الآخر) ببقاء رأسه، ربما الأجدى للنظام الإيراني أن يبدأ – بأسرع ما يمكنه – التعامل مع حالة الهزيمة الكاملة والنهائية التي مُني بها، وإلا فإن خسائره المستقبلية لا تعد ولا تحصى.
بالتوازي، كانت هناك حالة إعادة ارتباط مع الدول العربية ووصل ما انقطع معها، بفعل علاقة النظام البائد مع النظام الإيراني خصوصاً، إعادة الارتباط عربياً – والتي توليها القيادة الجديدة أولوية بارزة- تمثل بدورها هزيمة مضاعفة للنظام الإيراني، لقد كان من أكثر القرارات كارثية للنظام البائد هو أن استعدى محيطه العربي وخسره لمصلحة النظام الإيراني، كان الشعب السوري أكثر من عانى – على مدى عقود – من كارثية هذا القرار وعلى جميع المستويات، أبرزها اقتصادياً ليقبع بمجمله تحت خط الفقر والعوز.. وأمرّها انقطاع «صلة رحم» عربية كان يمكن أن تكون مُعيناً في الأزمات والشدائد من جهة، وفي إعلاء شأن بلاده من جهة ثانية.
أيضاً إعادة الارتباط السوري- العربي سيكون لها مكانة متقدمة في رسم خرائط (النفوذ والثروة) المستقبلية، باعتبارها تعيد تشكيل تموضعات الكثير من دول المنطقة، لناحية التأثير على علاقات وتحالفات وتكتلات كانت ترتسم باتجاه التركيز على منطقتنا، بدولها العربية خصوصاً، وعلى سورية (والحرب المستمرة فيها) كمنصة للابتزاز والتفاوض ومن ثم الاستحواذ والتسيّد، لقد طوت سورية الجديدة جميع الصفحات باتجاه صفحات أخرى، ستكون حافلة ولن يطول الوقت قبل أن نشهد أولى ثمار سورية الجديدة.
بالعودة إلى القاعدتين (آنفتي الذكر) والحديث عن إمكانية التنبؤ- على الأقل- بنصف خريطة جيوسياسية للمنطقة، بدول وأطراف وامتدادات دولية، فإن الحديث لا بد أن يستدعي أيضاً الخرائط الجيو- اقتصادية، حيث ستكون سورية الحرة محورها بتموضعها الجديد ضمن المحور الجيو- اقتصادي الواعد في المنطقة على أرضية التوجه العالمي نحو نظام الكتل والتكتلات بعناوين وواجهات اقتصادية ستكون سمة العالم الجديد الذي يُقال إنه يتشكل، والذي كان يُقال حتى الأمس القريب جداً إن قوى عائدة وأخرى صاعدة على الساحة الدولية هي من سيتزعمه (روسيا، الصين، البرازيل، الهند.. وإيران كذلك كانت تتحضر لدور بارز فيه) فإذا بسورية الجديدة تقلب الموازين وتعيد توجيه حركة التاريخ وتجعلها تستدير بما يلزم.. لتكون الانطلاقة أقوى والخطوات راسخة على أرض ثابتة.
إنها سورية الجديدة الحرة، دولة قائدة، لا تابعة ولا مستلبة في الدور والقرار، سورية الحرة التي تشق طريقاً جديداً، وعراً وشاقاً، لكنها ستقطعه كوطن جامع موحد، منسجم، ومتعافٍ إنسانياً اجتماعياً ووطنياً، لتظفر مستقبلاً بالموقع الذي تستحقه.