للقضية حكاية أخرى.. إضاءات خفيفة على مجريات الحرب على لبنان
ادريس هاني:
في تاريخ الفكر التّحرّري، لم نشهد يوماً عناوين تتجاهل جوهر الموقف الوطني والتّحرري، لا شيء يثير إعجاب الوطني الحرّ أكثر من أن يرى تجارب وطنية، كيف يحمي الأحرار أوطانهم، كيف يكونون أوفياء للأرض، كيف لا يخضعون لإرهاب المحتلّ. تثير فينا تجارب الأحرار غريزة حبّ الأوطان، أمّا من كان في وطنيتهم التباس، فيستهينون بما يفعله وطنيون ما، في أرض ما، وثمّة في مزابل الإنشاء المغالط ما يكفي للاختباء، وتبرير الهمجية، لاسيما حين يتعلّق الأمر برزايا الشعوب.
ونسعى دائماً للاختباء خلف مقولة تحشيشية، أنّ لا شيء يهمّنا، وأنّ لا علاقة لنا بما يجري في الشّرق، ثم نتمحّن أكثر في الاصطفاف في أسوأ ما في الشّرق، ثمّ نتدخّل في قضايا أوطان أخرى تحت مبررات شتّى. فحين يتعلّق الأمر بتراجيديا أمم أمثالنا، فهنا نختبر الضمير والإحساس الإنساني. ما أقساها قلوب كالحجارة أو أشدّ قسوة.
ما الذي يجهله المتحرّقون على طريق التضليل، في أمر هم فيه أكياس من حقد وحاويات من جهل؟
سأحدّثك بما لم تعلم:
– تأكّد بالملموس أنّ الاحتلال بقيادة مجرم حرب استهتر بالعالم قبل أن يستهتر بالعرب، فعل ما فعل لدقّ إسفين في نعش حلّ الدولتين، وبينما سعى لإعادة النزاع إلى المربع الأوّل، كان قد تدهور إلى ما قبل 1967، إنّ قواعد الحرب تغيّرت، ابتداء من اليوم، أصبحت الحرب تستهدف عمق الاحتلال، هذا ما أكدته صحافة الاحتلال، ما كان مستحيلاً الوصول إليه، بات في مرمى محور بكامله، مطار بن غوريون مغلق، ليس خوفاً من القصف، بل خوفاً من الهجرة المعكوسة، الاحتلال يخفي أزمة مصيرية، هي ما يفسر خرقه كل قواعد الاشتباك.
- قصف الضاحية والاغتيال السياسي أقنع المحور بمزيد من التصعيد، نهاية أسطورة القبة الحديدية، حتى القوة النووية لن تردع قصف الاحتلال، واستهداف بنيته التحتية، التفكير في الرّد، سيستدعي تسلسلاً في الردود، لا شيء يمنع حينئذ من الحرب الشّاملة.
- فشل الاحتلال في اقتحام الجنوب، يخفي كلّ أضراره، لم يعد أمامه سوى الحرب النفسية عبثاً، وقصف المدنيين.
- ولا بأس بالتذكير بما سبق وذكرته في مقام آخر، فإنّ استهداف قيادة المقاومة في الضاحية، فضلاً عن أنّه انتهاك للقانون الإنساني الدّولي، وفضلاً عن كونه غدراً جاء في سياق تباشير وقف الحرب، إلاّ أنّه لا يُعتبر عبقرية استخباراتية ولا تفوّقاً نانويّاً، فأمّا من حيث العبقرية الاستخباراتية، فمن السهولة معرفة أنّ في مربع ضيق توجد قيادة المقاومة، يمكن معرفة ذلك بأساليب كلاسيكية في بيئة مفتوحة، اقتضت شروط التقارع السياسي اللبناني أن لا تكون المنطقة مغلقة، وهذا يفنّد حكاية أنّها منطقة خاصّة بالحزب. وفي مربع مشهود وضيق، يمكن إبادته بما يفوق 80 طناً من المتفجرات المتطورة المحمولة بطائرات(F-35)، مجرد استعمالها في مساحة طوبوغرافيا محدودة تعطيك اليقين بمقتل كل ما فيها وما حولها. المفاجئ هنا هو قرار تنفيذ عملية بهذا الحجم. هذا القرار كان مستبعداً نتيجة حسابات معقّدة، فيها ما له صلة بقواعد الاشتباك، فيها ما له علاقة بالوثوق في المساعي الغربية لإيقاف الحرب، فيها ما هو مرتبط بتعقيدات البيئة السياسية اللبنانية.
- اليوم يتكبد جيش الاحتلال خسائر فادحة في ميدان المعارك البرية، فشل ذريع في يارون ومارون الرّاس. ولكي يغطّي على فشل التقدم البري، عاد إلى قصف الخيام وكفركلاّ وكفرشوبا وعيتا الشعب. وهذا طبيعي، إنّها حرب بين مقاومة وكيان يتوفّر على أسلحة فائقة، ومسنود بقوى عالمية، لا ننسى أنّها مقاومة في وضعية كفاح ضدّ كيان نووي، القضية ليست نزهة أو متاجرة، بل معركة حامية لا مثيل لها في تاريخ الحروب.
- في الحرب النفسية والتضليل الإعلامي تتدفّق العديد من المغالطات، غايتها شيطنة قوم يكافحون المحتلّ في بلد كان ولا يزال مسرحاً لانفجار ما يبدو في غيره حرباً باردة. فلبنان الصغير، ككل بلد صغير هو ضحية للدّول الكبرى، ولكنه سيصبح بالفعل تهديداً لتلك الدول نفسها، كما في عبارة لميخائيل باكونين: حذارٍ من الدول الصغرى. في لبنان لا يمكن تصوّر حالة فراغ، فلقد حمل لبنان لعنة الانتداب الفرنسي، المحاصصة الطائفية السياسية التي ستنفجر في 1975 على شكل حرب أهلية طاحنة. ما الذي جعل فريقاً من اللبنانيين، سواء في الجنوب أو البقاع، يتحوّلون من الأرز والورد إلى القنابل اليدوية؟.. يتساءل المراسل السابق لـ«الغارديان» ديفيد هيرست، الجواب: إنّه الاحتلال نفسه، وذلك بعدما اعتقد أنّ هذا الفريق (بعد فريق سابق خلال الحرب الأهلية) سيكون حليفاً له ضد الفلسطينيين. ولكنه في بواكير اجتياحه للبنان، يحرق عشرات القرى بالجنوب ويقتل آلافاً من المدنيين، لا بل، والعهدة على ديفيد هيرست، أنّ ربع ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، التي نعاها العالم، كانوا من ذلك الفريق.إن القصف والاجتياح، انتهى بالنزوح الجماعي، إلى تشكيل حزام البؤس بالضاحية الجنوبية.
- فشل الاحتلال في جعل هذا الفريق حليفاً له في حربه على الفصائل الفلسطينية، فشل في أن ينظمهم فيما يشبه جيش لحد، تلك الميليشيا التي قادها الرائد سعد حدّاد بالقليعة، وانتهت بإعلان «دولة لبنان الحرّة» وتدشين عهد «الفينقة». سعد حدّاد كما يخفى على الكثير من اللبنانيين أنفسهم بَلِه، فيه شيء من الغباء، وحتى حين انْتُدِب للالتحاق بالخدمة في الجيش الفرنسي، لم يكن متفوّقاً إزاء أقرانه، ونقاطه في التدريب كانت ضعيفة جدّاً، هذا ما أحاطني به صديق مشترك مقرّب منه في فترة التدريب تلك.
لقد حلّ السيد موسى الصدر بلبنان، الذي قدم من إيران ما قبل قيام الثورة، عاد وهو لبناني من أصول عاملية «جبل عامل»، جده صدر الدين بن صالح شرف الدين، في زياراته إلى لبنان احتفى به المرجع شرف الدين الموسوي وعادت أواصر النسب، وبقي عالقاً في ذهن أهالي صور مديح مرجعها السيد شرف الدين، فدعوه إلى صور بعد وفاة السيد شرف الدين الموسوي، وقدم إليها بعد أن حثّه على ذلك كبيرَا مراجع ذلك العهد: البروجاردي والسيد محسن الحكيم.
الشاهد في إيراد ذلك، بيان العلاقة التاريخية بين إيران ولبنان، علاقة نسب، فأبوه صدر الدين من الجنوب، وأمه صفية بنت السيد حسين الطباطبائي القمّي، سيمتد نشاطه الاجتماعي من صور حتى البقاع ليعمّ لبنان، وقد أسس حركة المحرومين، وبعدها مع بداية الحرب الأهلية سيؤسس أفواج المقاومة، كان معاونه المهندس الإيراني مصطفى شمران الذي سيتولى بعد الثورة وزارة الدفاع في حكومة بازركان. كان الشهيد شمران مهندساً بارعاً درس في أمريكا، وكان رساماً ماهراً، ثم التحق بفتح وقاتل في صفوف الفلسطينيين، ثم معاوناً للسيد موسى الصدر، وأيضاً سيرتبط بقران بسيدة لبنانية من الجنوب.
- تتحوّل الهمروجة الوظيفية إلى كوميديا سياسية، أولئك الذي يضخّون سيلاً جارفاً من المعلومات الفاسدة، والتي يعرفها أطفال الضاحية، ولكن هناك من يساوم بها، وهي لن تغيّر من الواقع شيئاً. إنّ التضليل وظيفة تستهدف من لا يعرف كوعه من بوعه، وأمّا المدى الكرونولوجي للتهريج فهو بمقدار المسافة بين العين وأرنبة الأنف. دائماً في المعارك تختلط الأوراق، ولكن الأوراق حتماً ستنتهي، فلا نجد حينئذ ما نخلط أمام صدمة واقع لسنا وحدنا متحكّمين فيه. درس الاحتمال يعفينا من أقيسة إبليس. ولا يستحق ذلك مزيداً من التفصيل.
- بالعودة إلى حوادث اليوم، فإنّ التطور الموضوعي للمقاومة اللبنانية، نتج عنه تحرير الشريط الحدودي من الاحتلال بعد كفاح مرير. وأعفى جيشاً غير مسلح من أن يقدّم ضحية لاحتلال مدجج بأحدث الأسلحة، لقد حموا الجيش الوطني.وقد عزّز دور المقاومة البيان الوزاري في 2008 الذي تم بالإجماع من المجلس الوزاري، الذي كرس وحدة الشعب والجيش والمقاومة، وباعتبار أنّ المقاومة تعمل في حدود مصالح الدولة.
للمقاومة فريق نيابي بالبرلمان، لها حلفاؤها من سائر الأطياف التي يتشكل منها المجتمع اللبناني، وهي مشاركة في الدولة والقرار السياسي.
- اغتيال القيادة العليا للحزب وعدد آخر من القيادات، لم يمس البنية العميقة للمقاومة، والدليل هو عجز الاحتلال عن اجتياح مارون الراس ويارون، الاحتلال تحدث عشية اغتيال السيد عباس الموسوي، بأنه أنهى حسابه مع الحزب، لنشهد تطوراً لافتاً في عديده وعتاده، البنية العسكرية مغلقة بينما البنية الفوقية السياسية للحزب مفتوحة، سيضيف اغتيال السيد حسن نصر الله إلى تاريخ الحزب زخماً روحياً أقوى، فالاحتلال لا يفهم رمزية الشهادة في البنية الفوقية للحزب، حيث يتكثّف حضور الرمز في وجدان من لهم فلسفة خاصّة عن الغِياب/ الحاضر، حضور الرمزي بصورة أكثر وبتكلفة أمنية أقلّ كونه من دون إحداثيات، حين تطغى التقنية وتشتدّ يد الغزاة، لا بديل عن دور الرمز في الكفاح، فلقد طوّر القوم نسختهم من لاهوت التّحرير.
- المقدار المتيقّن في لعبة الجغرافيا، تلك التي وصفها إيف لاكوست بأنّها تساهم في قيام الحرب، هو أنّ هذا الذي يبدو إزعاجاً في بيدائنا العربية، ستكشف الأيّام، أنّه هو الحزام الأمني الذي يؤخر استحقاقات السيطرة، لأنّ الاحتلال في لحظة الهسترة، لن يسمح بتفوق أي دولة عربية، ما زال لديه حساب لم يغلقه مع مصر، وسورية والأردن، وسائر الدول العربية. هو يفكر في شرق أوسط جديد، هذه المرة لن يكون ناعماً كما «حلم شمعون بيريز» لأنّ الاحتلال لا يملك قوة الجذب إلاّ غرراً وغروراً ، بل هذه المرة سيكون شرق أوسط جديداً بقوة الإخضاع والإرهاب، شرق أوسط جديداً عنوانه الإبادة وخرق الأعراف الدّولية.
لقد ساهمت المقاومة في تأجيل ذلك الحساب بين الاحتلال والدول العربية. من يا ترى يعتقد أن ملفات أي أزمة في العلاقات الدولية قابلة للطيّ النّهائي؟ فالعلاقات الدولية قائمة على الملفات المفتوحة والجروح المفتوحة والأوراق المبعثرة، لا شيء غير المقاومة والكفاح والمناورة، يمكن أن يحمي الدّول الصغرى من الدّول الكبرى.
- إذا خرجت الحرب عن السيطرة، وإذا تجاوزت الحرب لعبة المخاطرة وباتت محض مغامرة، فإنّ الاحتكاك البرّي، قد يمدّ قدم المقاومة إلى الجليل، الحلم الذي سكن وجدان المقاتلين بالجنوب. إخلاء الشمال لا رجعة فيه، ونقل المعركة إلى داخل الاحتلال واردة. لقد قالها «ماركسيّ» من الجنوب ذات مرة، مهدي عامل: لستَ مهزوماً ما دمت تُقاوم.
كاتب من المغرب العربي