اللاّمطروح في سؤال الحداثة
تشرين- ادريس هاني:
لا يمكن الاستقالة بسؤال الحداثة خارج حرائقها الموضوعية. ويكمن التّحدّي في أنّ الحداثة كمسار تاريخي لا رجعة فيه، يفرض كلّ هذا التعقيد، لتبقى المشكلة بمن تجري عليهم إكراهات الحداثة، الهيمنة التي خضعت لها الحداثة وبأدوات ومكتسبات الحداثة، شيء واحد لم تنهه الحداثة، ألا وهو جدلية السادة والعبيد.
الحداثة اليوم تواجه هي الأخرى تحدّي الهمجية، الرّدة نحو أصالة التّوحّش ما قبل الأنوار وأحلام النهضة وتمثّلاتها. لقد تمّ اختطاف الحداثة قبل أن تُنجز، تمّ اختطافها في منزلق باتت الحداثة رهينة للاقتصاد السياسي في طوريه الميركونتيلي والكولونيالي، تقسيم العالم في الطور الإمبريالي بين مركز وهامش، سيادة الرأسمال على العقل والحرية والتنوير والإنسان، انقلاب المفاهيم الكبرى، كلها أمور خلطت الإمبريالية الأوراق، وعانقت ما قبل الحداثة بأدوات ومكتسبات وتقنيات الحداثة.
ما كانت الحداثة لتكون معجزة لإنسان الجنوب، لو تُرك حُرّاً أمام استحقاقاتها. لقد ربطوا بين الحداثة والعرق، أن تكون حداثيّاً ليس خياراً، بل السؤال المستبعد: كيف تكون حداثيّاً بعد الحركة الكولونيالية التي حوّلت الحداثة إلى ابتزاز وتقسيم عمل؟
هيمنت حسابات الاقتصاد السياسي والسيطرة ثم تعسكر الكوكب بصورة شمولية تتهدّد الحياة والكون، بات العالم تحت طائلة التهديد والاحتكار الرمزي والمادّي للقوة.. أن تنسى تاريخك أو تستدعيه، سيان في حسابات الإمبريالية وسياسة الإخضاع.. ما تعيشه المجتمعات غير الغربية، بما فيها اليابان وكوريا الجنوبية ونظراؤهما المتقدمان في التنمية والتصنيع، هو شكل من التّمثُّل القُوّوي لأشياء الحداثة، لكن في عمق هذه التجارب يكمن شعور حاد بالعُصاب، بعقدة حقارة، بالهشاشة، منذ تحوّلت الحداثة من منعطف ثوري إلى ابتزاز دولي.
لا أهمّية لخطاب الحداثة في برنامجه الديماغوجي، لا سيما العربي، فلقد كانت الظروف سانحة لتحقيق الكثير، على الرغم من كل هذه التناقضات، لكن الغرب كان وما زال يُراقب تخلُّفنا، لأنّه راهن على التّفوّق، أن نختار وظيفة عبيد الحداثة لا سادتها.. الحصار، الابتزاز، سياسة المساعدات بدل إطلاق سراح الحداثة في إطار العدالة التّاريخية، علاقة المركز والهامش، حرق البيئة السياسية والاجتماعية للجنوب.. كيف يمكن أن تنشأ حداثة في الهوامش، بعد أن حدّد لها المركز دوراً في السياسة والاقتصاد والحرب؟
كلّ هذا يعني، أنّ الحداثة لا يمكن أن تكون موضوعاً خارج فعل المناورة والمقاومة للمركز الإمبريالي.. إنّها في صلب المعركة والصراع، الحداثة بهذا المعنى حركة تحرر حضاري وقبل ذلك حركة تحرر وطني.
حشر الغرب الإمبريالي الهوامش في نزاع سيكوباتولوجي حول الحداثة، وظهرت مستويات من الخطاب تُكرر هذا الشّكل من عنف قديم بين عبيد الحقل وعبيد المنزل، وكانت الأسئلة غير جادّة، بل مغلوطة، تُصوّر أن الحداثة مجرد فلسفة نظرية، وليست كفاحاً ومُخاطرة.. ملامح عبيد المنزل واضحة في مجمل خطاب الحداثة النظرية العربية، إنّهم يتمثّلون ضرباً من الإيمائية.
ليست غاية الإمبريالية إقصاء الأمم من رخاء الحداثة، فهذا ليس في حساب الاقتصاد السياسي للحداثة في شروطها الإمبريالية، بل تريد أن تضع لها وظيفة داخل الحداثة: هامش الحداثة، الصرف الصحي للحداثة.. لقد جعلت الإمبريالية من الحداثة مطلباً داروينياً يحافظ على الميز العنصري في تراتبيتها ووظائفها.. الحداثة في الهامش إذن، هي حداثة ممنوحة في شروط تضمن قيام المركز واستمراريته.. إنّه القدر الجيوسياسي للحداثة، تلك التي اعتبرها هنتنغتون مكسباً، لنقل مكسباً أنكلوساكسونياً، وهو مكسب غير قابل للتقاسم، لأننا في نظره مختلفون جوهرياً، حضارياً، لن نلتقي.. الفرق بين هنتنغتون وفوكوياما، أنّ الأوّل يُطالب بالتزام حدود الجغرافيا السياسية للغرب، وهي رؤية غبية من وجهة نظر الاقتصاد السياسي للسيطرة، بينما فوكوياما يطالب بشكل أو آخر بالاعتراف والإذعان لمخرجات الغلبة وأن نقبل بمعادلة معادلة السيد والعبد.
إنّ الأسئلة الحارقة للحداثة، إن هي باتت لعبة جلد ذات متخمة بالعُصاب، لن تكون أسئلة جادّة، مادامت الصالونات (جمع صالون) الكونية لخطاب الحداثة تقدّم إدانة غير مشروطة لذات في دوّامة شروط قهرية يرعاها المركز، ويجعل سؤال الحداثة اللاّمطروح سؤالاً يقع في صلب مناهضة الإمبريالية وحسابات الجيوستراتيجية التي باتت خطراً على الحداثة، لا، بل أصبحت خطراً أنطولوجياً عاماً.
في تنكّر الهامش لسؤال التحرر الوطني، خيانة للسؤال الجوهري للحداثة.. الحداثة بشروط إمبريالية، بالاعتراف الذي يفرضه القهر، باتهام الذّات اللاّمشروط، بتصوير الحداثة غاية مخملية مجردة من شروطها الجيوستراتيجية، بالعدمية والافتقار للمشاعر الإنسانية في عنف الإمبريالية، في التنكر حتى لهمس الرواقيين في علاقة المشاعر الإنسانية بالفضيلة، في كلّ هذا نكون قد خدمنا سؤال الحداثة في حدود وظيفتنا الثالثية: حداثة العبيد.