جماليات الأرض القديمة والاشتباك مع النص الماضي بين المناكفة والتقليد
دمشق- علي الرّاعي:
تبدو حكايا المهابارتا والإلياذة والأوديسة، بمثابة الجداول، اتحدت في مجرى واحد، فصارت ملاحم، كما اجتازت بعض الحكايا آلاف السنين، ووصلت إلينا كأنها البارحة، في حين تهرم أعمال كثيرة في عقدٍ من السنين، أكثر أو أقل، وثمة أعمال تولد هرمة، فتموت في حضانتها..!
النصوص القديمة
فما الذي لم تقله النصوص القديمة، صراحةً، أو لم تشر إليه عبر رموزٍ شفيفة؟! ومن هنا تبدو اليوم صعوبة إنتاج النص المعاصر المفارق تماماً عن النص القديم، بما يشبه الاستحالة، ومن هنا تبدو إضافة “ميليمتر” واحد تُشكل مبتغى الإبداع الآن، ذلك أنه لا مجال – على ما يبدو اليوم- من تعالق النصوص القديمة وتشابكها مع النص المعاصر، وإذا ما كان على شكل البناء، تكون الغاية الإبداعية قد تحقق منها الكثير، وعندما نقول النصوص القديمة لا نعني بذلك السرد القديم وحسب، بل مختلف الجماليات الموغلة في عمق هذه الجغرافيا، من نحت وتماثيل وتشكيل، وموسيقا، وأبجديات، وأديان.. وغير ذلك من إبداعات مختلفة.. فلا تزال الجماليات القديمة تُرخي بظلالها على ما ينتج من جماليات حديثة، ومن مختلف أنواع الإبداع، وبدوره لا مناص للنص المعاصر من أن يتضمن شيئاً مما قُيل في السابق، فليست الأفكار وحدها على قارعة الطريق، بل أيضاً الصياغات القديمة أيضاً والتي طالما أًعيد بناؤها من جديد بإضافاتٍ لا تذكر..
ألف ليلة وليلة
وإذا ما أخذنا كتاب (ألف ليلة وليلة) على سبيل المثال، فأعتقد أن تأثيره الكوني توفر في آلاف الذين كتبوا، وحتى رسموا، ومثلوا، وغير ذلك، في مشارق الأرض ومغاربها، ولم يُضاهيه كتابٌ آخر، سواء بتقنية الحكايا المتناسلة، والمتوالدة من بعضها، أو في حكم، ووعظ أحداثها.. أي كان التأثير ليس في التقنية فقط، بل حتى في مقولات النص وشواغله وأغراضه.. ونادراً ما تخلص كاتبٌ ما من وطأة هذا التأثر، ولو أحصيت الأعمال التي تأثرت بهذا الكتاب، لكان العدد هائلاً فكانت – على سبيل المثال- (ألف ليلة وليلتان) لهاني الراهب، والكثير من أعمال واسيني الأعرج، وأحدث ما قرأت في هذا المجال رواية “أوبابا كواك” للكاتب الإسباني (جوسيبا إرازو) من إقليم الباسك، وفي ملامح الكثير مما كتبه بورخيس، وحتى بابلو كويلو.. الذي يُحيلنا إلى هذه الحكاية أو الحكايا الليلية، التي يُزعم أن شهرزاد كانت ترويها لأميرها شهريار، في محاولة ترويضه، وقتل الوحش الذي استقيظ في داخله على إثر خيانة، وطعنة غادرة..!
استطالات مع التاريخ
ذلك كان في السرد، أما لجهة التشكيل فلا مناص أيضاً للوحة، والمنحوتة المعاصرتين، من الاشتغال لإنجاز أعمالٍ فنية غير منقطعة الجذور، أي ثمة هوية سورية للوحة هذا الفنان أو ذاك، تبرزُ، إما باللون، أو بمفردات اللوحة، وفي مواضيعها أيضاً، لوحة لها امتداداتها الشرقية العميقة، وذلك منذ أول المعارض، التي أخذت مفرداتها من ملحمة جلجامش، ثمّ إلى الأبواب العتيقة، وبعدها تستلهم السير الشعبية لعنترة وعبلة وغيرهما.. ومن فن الإيقونة، والزخرفة والخط والحروف العربية والعمارة التي لا تزال راسخة، سواء في أعالي الجبال، أو في الصحارى.. ولو عددنا الفنانين التشكيليين الذي “بنوا” على هذا القديم، فقلما يتوفر فنانٌ واحد لم تتضمن لوحته شيئاَ من هذه الجماليات.. وفي سورية تكاد تكون ميزة فنية، في هذا الاتجاه صوب الأرض العتيقة.
صوب الأرض العتيقة
وفي كلِّ هذه الاستطالات مع التاريخ بأنواعه: الشعبي، التراثي، الملحمي، أظن أن ذلك ينشدُ أمرين: الأول تحريك الذاكرة التراثية، أو إعطاء حياة ما لهذا التراث.. وفي المقابل، منح اللوحة شيئاً من السكون، أو العزلة في وجه حداثة لا تلوي على سكون، مع ذلك تأتي اللوحة – غالباً- بكامل مفردات الحداثة والمعاصرة.. أي أنّ الشغل على موضوع الذاكرة ليس مبعثه الحنين، ولو كان الأمر كذلك لكان اشتغل الفنان هنا على مسألة التلوين بغنائية أكثر ثراءً، كما لا ينشدُ التسجيلية أو الوثائقية، ولا عودة ماضٍ ما، وإن كان هناك من فعلها، ومن ثمّ وقع في فخ المُحاكاة والتقليد، وعدم الإضافة.. وإنما الإغواء في كلّ تلك المرجعية هي المفردات، أي كمن يحاول البناء من حجارة قديمة أن يبني بناءً معاصراً، ولذلك هو يُناكف هذا التراث، وربما يُناوشه، ويقدّم موقفه تشكيلياً بالتخفف من حمولاته التي لا تخلو من وطأة أحياناً، رغم ذلك فإنّ اللوحة البائسة تلك التي تُعيد وتنتج ما قدمه الأسلاف من دون إضافة، أو مناوشة، وحتى بقلب المفاهيم، وإعادة البناء من جديد، حتى ولو كان من ذات الحجارة، بل إن الإبداع الحقيقي اليوم، يقوم على مراجعة الجماليات القديمة، وحتى تصحيحها، وإلّا وقعنا في “وثنية وصنمية” جديدة، وتحت وطأة “مقدّس” لا يرحم، وللأسف هذا يحصل كثيراً في مجالات الإبداع المختلفة.!