مُخاطباً اليافعين… أحمد بوبس.. يستعيد سيرة الشيخ علي الدرويش
تشرين- لبنى شاكر:
تتزاحم التجارب وأنماط الكتابة في مشوار الباحث أحمد بوبس، لكنه في إصداره الثاني والعشرين عن الهيئة العامة السورية للكتاب يتجه نحو اليافعين، لتعريفهم بالشيخ علي الدرويش 1884-1952، والذي يغيب اسمه في المُتداول عن التاريخ الموسيقي العربي والشرقي، رغم ما قدّمه من جهودٍ في التقصّي والتدوين، غير إن ما يُحسب لبوبس أيضاً اجتهاده في الابتعاد عن التلقين والاكتفاء بالسرد المُطوّل في الكتاب، نحو شكلٍ أكثر حيوية، بحيث تتوالى التفاصيل عن حياة الدرويش، بما يُشبه نصّاً مُعدّاً للعرض عبر أكثر من وسيلة.
جاء مضمون الكتاب على هيئة درسٍ موسيقيٍّ يتحاور فيه الطلاب مع أستاذهم
المسيرة الموسيقيّة
يُشير بوبس في حديثه لـ “تشرين” إلى إن البحث في مشوار الدرويش جاء بناءً على اقتراح المدير العام السابق للهيئة الدكتور ثائر زين الدين، بالكتابة عنه للناشئة لما له من أهمية ومكانة، ومن ثم بدأ العمل لتقديم مُنتجٍ يفي المُبدع المنسي حقه، فتناول حياته ومسيرته الموسيقية الفنية بصورة عامة، مع التركيز على نقطتين مهمتين؛ الأولى: مُشاركته ودوره في مؤتمر الموسيقا العربية في القاهرة عام 1932، والثانية: إقامته في تونس سبع سنوات في ضيافة البارون الإنكليزي “رودولف دير لنجة” المُهتم بجمع التراث الموسيقي العربي بصورة عامة والأندلسي بصورة خاصة، إلى جانب مُمارسته مجموعة نشاطات منها؛ التدريس في معهد الرشيدي، وإقامة الحفلات الموسيقية بوصفه عازف ناي بارعاً، وفي السياق ذاته، جَلَب معه النوبات الأندلسية ودوّنها وسجلها في إذاعتي دمشق وحلب، كذلك لفت انتباهه كتاب “الموسيقي الكبير” للفارابي فنسخه بخط يده كاملاً على الرغم من حجمه الكبير وحمله معه إلى حلب.
أسلوبٌ جديدٌ
يتحدث بوبس عن غبنٍ يطول الدرويش منذ زمن، فهو يكاد يكون مجهولاً حتى بالنسبة للكبار، لذلك كان التوجّه نحو الأصغر سناً، خطوةً على درجة من الأهمية، اتبع خلالها كما أشرنا بدايةً أسلوباً جديداً في القص، بأن جاء المضمون بهيئة درسٍ موسيقيٍّ، يتحاور فيه الطلاب مع أستاذهم، بأسئلة واستفسارات تكشف عن الشيخ الدرويش، وإن كان بوبس يتجاوزها نحو شرحٍ وافر لكثيرٍ من المفردات والتعابير الموسيقية الواردة في عموم الكلام، منها مثلاً “الصوفيّة، المُوشّح، التكيّة، الموسيقا الآليّة، القالب”، بحيث يسير مع قُرائه خطوةً بخطوة نحو فهم المحطات والإنجازات التي حققها الشيخ، وجعلته واحداً من أهم الموسيقيين السوريين في القرن العشرين، ولا سيما مع تنوّع عطاءاته الموسيقية بين العزف على الناي وتلحين الموشحات وتأليف المقطوعات، غير أن عطاءه الأهم كان في الأبحاث والدراسات الموسيقية التي أغنى بها الموسيقا العربية وجمعها في كتابٍ كبير.
جَلَب الشيخ علي الدرويش النوبات الأندلسية ودوّنها وسجلها في إذاعتي دمشق وحلب
رحلات وزيارات
كان الدرويش على حد وصف الكاتب واسع الاطلاع على الموسيقا الشرقية بفروعها العربية والتركية والفارسية، وتلقى دعواتٍ للزيارة من مدنٍ ومؤسساتٍ موسيقيّة لها وزنها، فكانت رحلته الأولى إلى إقليم عربستان زار خلالها طهران، وتوقف أيضاً في البصرة وبغداد واطلع على الموسيقا العراقية، كما لبّى دعوه لزيارة القاهرة من إدارة النادي الموسيقي الشرقي فيها، تضمنت إقامته لمده ثلاثة أشهر بهدف التعاقد معه لطباعة كتابه “القراءة الحقيقية في علم القراءة الموسيقية” المُكوّن من ستة أجزاء، ويضم معارفه وعلومه الموسيقية، مع جزء مخصص لآلة الناي، وآخَر للموشحات القديمة، وفي المرحلة نفسها وقّع معه النادي عقداً ليُدرّس العلوم الموسيقية وأصول العزف على الناي، فتتلمذ على يديه كبار الموسيقيين المصريين أمثال “محمد عبد الوهاب” و”محمد القصبجي” و”رياض السنباطي” أما “السيدة أم كلثوم” فلم تدرس في المعهد بشكلٍ مُنتظم إنما تلقّت بعض الدروس على يديه.
العطاء الأهم للدرويش كان في الأبحاث والدراسات الموسيقية التي أغنى بها الموسيقا العربية وجمعها في كتابٍ كبير
في العراق ودمشق
العراق أيضاً كان له نصيب في تلقي العلوم الموسيقية من الدرويش، ففي عام 1945 تلقى دعوة من الحكومة العراقية كما يشرح بوبس للتدريس في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وبقي في عمله في المعهد حتى عام 1950، حيث تتلمذ على يديه عدد من الموسيقيين العراقيين الكبار منهم؛ عازفا العود الأخوان “جميل ومنير بشير”، والمطرب “ناظم الغزالي”، وكان من أعضاء فرقه الموشحات التي شكّلها الدرويش في المعهد، كما تولى إدارة الإذاعة اللاسلكية العراقية، وسجل فيها 120 موشحاً من الموشحات التراثية القديمة.
وعن حصة دمشق من رحلات الدرويش، يُشير الكاتب إلى أنه زارها مرات عدة، وسجّل لإذاعتها النوبات الأندلسية، لكن أهم زياراته لها كانت عام 1950 عندما تلقى دعوة من الزعيم الوطني “فخري البارودي” للتدريس في المعهد الموسيقي الشرقي الذي أسسه البارودي في دمشق، ودعا معهم ملحن الموشحات “عمر البطش” لتدريس الموشح ورقص السماح.