موجةُ كسرِ القَوالبِ
إن كانت مَهمةُ “إطفاءِ الحرائقِ” حكوميةً في جانبها اللصيقِ بيومياتِ البلاد، فإن إعادةَ الهيكلةِ كاستراتيجية محوكمةٍ- وهي أوسعُ وأشملُ – تبدو من مهامِ الدولة، ولعلها استحقاقٌ حيويٌ مُلحّ في بلدنا اليوم، لاستدراك فجواتٍ كبيرةٍ وتبديدِ ظلالٍ ثقيلةٍ أرخَت بها سنواتُ الحربِ المديدةُ والحصارُ البغيضُ.
والواضحُ أن مايجري اليوم في سورية على مختلف المستويات وبمقدمات تشريعيةٍ لازمة، هو جراحات عميقةٌ لايمكن تصنيفها إلا في سياق إعادة الهيكلة الهادئة والمتأنية لمختلف البنى الاقتصادية والخدمية، واجتراح خيارات استثمار جديدة للموارد، وطيّ صفحات مزمنة من الارتباك في إدارتها، بما أن ثمة قناعات تبلورت بأن مشكلتنا مشكلة إدارة قبل أن تكون إدارة موارد.
وتشي الإصلاحات الجارية على البنية التشريعية هذه الأيام، بحقبة إصرار وجرأة على “كسر القوالب” البائدة، إن التقطتها الجهات التنفيذية بحذاقة، وأحسنت إخراجها إلى حيز التطبيق..فهي مضمار اختبار للقدرات ومهارات التكيف مع المستجدات بعد سنوات من الخمول والكمون القسري.
وإن كانت كل التشريعات الجديدة ذات أبعاد استراتيجية حسّاسة، إلا أن “الموجة التصحيحية” الأخيرة، تَعدُ بتغيير واجهة وخلفيات أهم بنى الاقتصاد والتنمية في سورية، من إعادة ترتيب ومأسسة الاستثمار الزراعي، إلى تحفيز عائدات أملاك الدولة، وهذه الأخيرة لوحدها قطاع يغصُّ بالفرص الدسمة إن اهتدينا لإدارته بالأدوات المرنة التي أتاحتها التشريعات الجديدة، وصولاً إلى القانون رقم٣ المفصلي في مسيرة القطاع العام الاقتصادي في سورية، فهو عبارة عن إعادة هيكلة – لامجرّدَ إصلاحٍ – لقطاع ينطوي على كافة المؤسسات والشركات التي طالما أطلقنا عليها لقبَ “الريادة”، في إنتاج القيم المضافة وضخ العائدات المجزية بين ضرائب وأرباح، لكنها تحولت بالتقادم إلى عبء ثقيل على كاهل الخزينة العامة والبلاد عموماً.
القوانين الجديدة صدرت بصيغٍ مَرنةٍ تتيح حزمةَ خياراتٍ واسعة لإدارة واستثمار الشركات القائمة والأصول الراكدة، بعيداً عن القوالب الضيقة المتهمة بتقييد حرية الإدارة وتعطيل الكوادر البشرية.
وفتحت آفاقاً واسعة أمام الجميع..من الحكومة التي عليها إعادة بناء الهيكليات الجديدة و عدم التضييق على نفسها بتعليمات تطبيقيةٍ ضيقةٍ، إلى قطاع الأعمال المعني كشريكٍ فاعلٍ تمت توطئة البيئة الاستثمارية أمامه، إن كان فعلاً لديه الرغبة بالعمل و تقديم نماذج استثمارية عصرية تتماهى مع الرؤى ذاتها التي أكثر منها رجالاته في سردياتهم الناصحة للحكومة.
والأهم أننا بتنا أمامَ فسحةٍ حقيقيةٍ لبلورة بيئة “إبداع” إداري واستثماريّ لائقٍ بما لدينا من موارد، شريطةَ ألا نعودَ لنمتطيَ الذرائعَ ذاتها من بيروقراطية وفساد.. فإن حصل فسيكون بيننا من يصرّ على صناعة وإعادة توطين هذين الداءين العُضال، وهنا سيتحتّمُ علينا التهيئةَ لتشريع موازٍ لكل ماسبق، يعنى بالتعاطي المناسب مع المسكونين بلوثة “مقاومة التغيير”.. وهي – بالمناسبة – لوثة مكتسبة لكن باستعدادات فطرية، بالتالي مكافحتها قد تتطلب جراحات موجعةً لامجرّدَ علاجاتٍ سطحية.
فالمرحلة لم تعد تحتمل تسويفاتٍ وذرائعَ وشماعات، لأننا في خِضم ورشةِ إعادة بناء بدأت وستمضي بخطوات متسارعة.. فيما يلهو بعض المتثائبين بضرب المواعيد مع المستقبل، وإثارة الجدل حول خيارات الإصلاح المقبل.