الموسيقي مانويل دي فايا، والهوية الموسيقية الإسبانية بلغة عالمية

تشرين- إدريس مراد:

قياساً بالموسيقا الأوربية، لم تتطور الموسيقا في إسبانيا إلّا مع بداية القرن العشرين، ولكن في القرون التي تضاءل فيها دور موسيقاها،كانت حياتها الموسيقية تتدفق بحيوية كاملة في مجالها المفضل، وهو الغناء والرقص الشعبي، كما ازدهرت أوبريتاتها الفكاهية الخفيفة المعروفة باسم “الثارثويلا” وهي البديل الإسباني للأوبرا الإيطالية، ويعود الفضل الأول لاستنهاض موسيقا هذا البلد من سُباتها الموسيقي (فيليب بدريل)الذي أرسى أسس الموسيقا القومية ببحوثه في الفلكلور وتحقيقاته وكتاباته وتدريسه ومؤلفاته، وأثمرت جهوده في ظهور مؤلفين إسبانيين، حققوا شهرة عالمية، واستمر تدفق تيار القومية الموسيقية بمزيد من الحيوية والعمق بفضل فنانها الكبير “دي فايا” ومن بعده كل من: تورينا ورودريجو وإسيلا وهالفتر وغيرهم.

الركيزة الأساسية للموسيقا القومية:

يعدّ الموسيقي دي فايا أهم ركائز الموسيقا القومية الإسبانية، وهو أعظم مؤلف إسباني في القرن العشرين من دون منازع، فبفضله وجدت إسبانيا مكاناً لها على خريطة العالم الموسيقية، والملفت عند هذا الفنان هو اختياره لحياة أقرب إلى الزهد والعزلة، وحرصه على التواجد الدائم في الأندلس، حيث يمكث فيها بضعة شهور كل عام، وربما هذا سر الصدق في مؤلفاته، والسحر الغامض الذي تشعّ به بعض أعماله، ولد دي فايا سنة 1876 في مدينة قادس جنوب غرب إسبانيا لأسرة من أصول فالنسية، معلمته الأولى لآلة البيانو كانت والدته، وفي هذا السياق يذكر دي فايا في رسالة كتبها للمؤلف الموسيقي الفرنسي رولان مانويل يقول: «…كان لأمي صديقة تُدعى اليويزا غالوتزو، وكانت عازفة بيانو ممتازة، وكنت أكنّ لها حباً عظيماً رغم أنّ ضربات عصاها على أصابعي قوية، وقد تقاسمت تدريبي العزف على البيانو مع أمي خلال ثلاث سنوات….». عزف مع والدته وهو في الحادية عشرة من عمره عملاً كبيراً لهايدن، وتلقى دراسته الهارمونية في مدينته قبل أن يذهب إلى العاصمة، حيث درس البيانو في أكاديمية بمدريد، ولكنه قاوم فكرة احتراف العزف، لأن كل هدفه كان يدور في فلك التأليف، وهو هدف أثارته في نفسه قراءاته للأدب الإسباني في يفاعته، وعاونت عليه الموسيقا التي استمع إليها في بلدته قادس، وجاءت الخطوة الأولى إلى الاحتراف عندما حصل على جائزة المسابقة التي اعلنت عنها الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في سان فريناندو في تلحين أوبرا إسبانية بفصل واحد، والتي سُميت بأوبرا “الحياة القصيرة”، وألفها عام 1904، وفي العام نفسه نال جائزة أخرى في مسابقة لعزف البيانو، ليحقق حلمه من ما جناه من الجائزتين، ويدرس في باريس.

مع ديبوسي ورافيل

بقي فايا في باريس سبعة أعوام محاطاً برعاية من موسيقيين هناك، مثل ديبوسي ورافيل وبول دوكا، كما تعرف على سترافنسكي، وفي رسالة مؤرخة في الحادي والثلاثين من أيار 1910، أيّ بعد ثلاث سنوات من إقامته في باريس، وجهها إلى كاروس وفرناندث يقول فيها: «أول خطوة نعمت فيها بباريس، بعد ساعة فقط من وصولي إليها، كانت زيارتي لدوكا، حيث ذكرت له الأسباب التي حملتني إلى باريس، وهي أن أعمل وأدرس لأتمكن من تقنيات المدرسة الموسيقية الفرنسية الحديثة، لأن نهج مؤلفيها يتوافق في رأيي وطريقتي في الإحساس بالموسيقا..».

وهنا يوضح تأثره بالمدرسة الانطباعية الفرنسية، وتعد مرحلة السنوات السبع البارسية مرحلة حاسمة في حياة فايا الموسيقية، تمكّن خلالها من تقنيات الكتابة الأوركسترالية، وأنهى بتعمق دراسة الأعمال الموسيقية الفرنسية والأوربية آنذاك، وتشرّب بعض عناصر انطباعية ديبوسي، وعرف كيف يطبقها على الموسيقا الشعبية الإسبانية.

الحب الساحر وغيره:

عاد إلى إسبانيا حاملاً معه اسلوبه القوي، وأدواته المتمكنة للتأليف الموسيقي المنسجم، ما بين الهوية الإسبانية والروح العالمية، وبدأت فترة خصبة في حياته كتب فيها أعماله الشهيرة، وكان مثالياً إلى حد الانطواء وحريصاً على صقل مؤلفاته وتهذيبها بعناية فائقة، قبل أن تصل إلى الجمهور.

ومن أهم أعماله أربع مقطوعات اسبانية للبيانو مهداة للموسيقي البينيز، والمقطوعات هي: الأرغوانية، الكوبية، الجبيلية، الأندلسية، ويجمع فيها بين الموسيقا التراثية الإسبانية والتأثير الانطباعي الفرنسي، وعمل آخر عنوانه الحب الساحر، وهو عمل لصوت غنائي بمصاحبة الأوركسترا، يجسّد فيه الأساطير والحكايات الإسبانية القديمة، وأيضاً ليالي في حدائق إسبانيا، استغرقت كتابة هذا العمل أربع سنوات للبيانو والأوركسترا من ثلاث حركات وهو أقرب ما كتبه للانطباعية في شاعريتها الفياضة، وسحر هذا العمل يضعه فوق مستوى التعليق والوصف ويجعل منه نموذجاً فذاً للآفاق التي تستطيع القومية الحقة أن تحلّق إليها بيد فنان بعمق وأصالة فايا.

التعاون مع بيكاسو:

العمل الآخر يمكن الحديث عنه هو الباليه الإيمائي “القاضي والطحانة” ويقع في مشهدين عن كتيب ألفه الزوجان مارتينيث سييرا، مستلهمين العمل من الأقصوصة الشعبية التي تحمل العنوان نفسه، تم عرضه عام 1919 في لندن، وتعاون مع الرسام بيكاسو الذي صمم الديكور والأزياء، وقدمت الباليه بعنوانها المعدل “القبعة المثلثة”، وقد ترك بيكاسو رسماً أنجزه لفايا وقعه وأرخه عام 1920، وفي هذا العمل يبتعد من الناحية الموسيقية عن كل صلة مع الانطباعية ليكتب بأسلوب الكلاسيكية الجديدة، ويعد أكثر أعماله الموسيقية نغمية، حيث وظّف أجزاء متفرقة من الموسيقا الشعبية الإسبانية.

صداقة مع لوركا:

استقر دي فايا لفترة في غرناطة، وفيها تعرّف على شاعرٍ شاب يكتب شعراً رقيقاً ساحراً، وهو الشاعر المعروف (لوركا)، وأصبحا صديقين، وخلال فترة نقاهة دي فايا بعد عملية جراحية أجريت له في ساقه، علم بأنّ لوركا اقتيد إلى السجن، وذلك عام 1936، وأن حياته في خطر، وكان فايا بالكاد يستطيع المشي، استقل سيارته وأسرع إلى المخفر، وتكلم مع رئيسه يستفسر ملابسات توقيف لوركا محاولاً العثور عليه، وعندما توصل إلى معرفة مكانه كان رصاص جماعة فرانكو قد اغتاله في أول أيام الحرب الأهلية الإسبانية، ولم يكن بمقدوره حينها سوى نقل الخبر المشؤوم إلى أم الشاعر، وعندما اثقلت على أعصابه المرهفة آلام الحرب الأهلية، وزادته انطواء غادر إسبانيا ومن ثم إلى الأرجنتين سنة 1939، وقضى فيها السنوات الأخيرة شبه مغمور، كرّس جهده فيها لعمله الذي لم يكمله، وهو العمل الكورالي الكبير “أتلانتيدا”، وقبل أيام من عيد ميلاده السبعين عام 1946 وجد مانويل دي فايا ميتاً في بيته في الأرجنتين، ورحل فقيراً معدماً، ولكنه ترك الكثير من الأعمال الثرية لم نستطيع سردها كلها، وقد نُقل جثمانه إلى مسقط رأسه في مدينة قادس في إسبانيا.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
سيتم إطلاقها بالتوازي مع المنصة الوطنية للحماية الاجتماعية.. وزير الاتصالات والتقانة: منصة الدعم النقدي ستكون جاهزة خلال الأشهر الثلاثة القادمة بسبب ارتكاب مخالفات واقتراع الناخبين ذاتهم أكثر من مرة.. القاضي مراد: إعادة الانتخابات في عدد من مراكز حلب وريفها المقداد يعزي البوسعيدي بضحايا حادث إطلاق النار الذي وقع في محافظة مسقط ناقش مذكرة تتضمن توجهات السياسة الاقتصادية للمرحلة المقبلة.. مجلس الوزراء يوافق على إحداث شعبة الانضباط المدرسي ضمن المعاهد الرياضية "ملزمة التعيين" وزارة الدفاع: قواتنا المسلحة تستهدف آليات وعربات للإرهابيين وتدمرها وتقضي على من فيها باتجاه ريف إدلب الجنوبي مشاركة سورية في البطولة العالمية للمناظرات المدرسية بصربيا القاضي مراد: إعادة الانتخابات في عدد من المراكز في درعا وحماة واللاذقية «لوجود مخالفات» غموض مشبوه يشحن الأميركيين بمزيد من الغضب والتشكيك والاتهامات.. هل بات ترامب أقرب إلى البيت الأبيض أم إن الأيام المقبلة سيكون لها قول آخر؟ حملة تموينية لضبط إنتاج الخبز في الحسكة.. المؤسسات المعنية في الحسكة تنتفض بوجه الأفران العامة والخاصة منحة جيولوجية ومسار تصاعدي.. بوادر لانتقال صناعة الأحجار الكريمة من شرق آسيا إلى دول الخليج