الفلسفة بلغة أخرى

تشرين- إدريس هاني:

– ما زلنا نؤكد أنّ التعقيد فلسفياً يعني التفكير من خلال مفاهيم، هي حصيلة تعاقدات نظرية، قطعت مع التعقيد المُبسّط الذي يستند إلى لعبة الألفاظ. كان ابن رشد قبل قيام نهضة الغرب يفكّر من مخرجات هذا الخطاب الذي اعتمد إدارة النقاش العمومي الخاص، داخل مجمع الحكماء، باللّغة الصناعية، وليس بالشائع من المعنى العام، لم يكن غربياً “بمعنى المعنى”، بل كان مغربياً. لا نحتاج في تقريب المشكلة الحضارية بيننا والغرب، إلى تبسيط ما يتطلب تعقيداً أو تعقيد ما يتطلب تبسيطاً، لماذا نبغيها عِوجا؟.

– لعل نيتشه أكثر من استوعب محنة القطيعة المعرفية التّاريخية، حين تكون وبالاً، والمتّهم عنده هو العصر الهيليني نفسه وامتداداته إلى عصرنا، هكذا يرى أنّ تنكر الهيلينيين للتراجيديا ، انتهى إلى التخلّي عن الاعتقاد بأي أمر مثالي في الماضي وفي المستقبل، ليس هناك أسوأ من تحريف الأصل، من نزع ما هو جوهري في التراجيديا من التراجيديا، قد يصبح الأمر انزياحاً وانقلاباً في ماهية الأشياء، كمن ينزع من الشيء ما هو ذاتيّ له، ثم يحتفظ بمسمّاه، كأنّ شيئاً لم يحدث، مثل هذا نراه ماثلاً في تجارب كثيرة، كثيرة جداً حتّى باتت عادة تفرض قبولها، ومن عصى، واجه الطّغام.

– لسنا في حاجة إلى مساحات أوسع من الحرّية لكي نكون أحراراً بالفعل، التعصب يجعل من الأحرار عبيداً، التّعصُّب يُفسد كلّ شيء، الدين والعقل والحرية، في كانديد يجيب بوكوكورانتي مارتن -على انبهاره بالمكتبة المليئة بمؤلفات باللغة الإنكليزية-بما معناه أنّ امتياز الإنسان أن يكتب ما يفكر فيه، بينما يصف الوضع في إيطاليا يومئذ بأن العادة أن نكتب ما لا نفكر فيه، لا أحد يجرؤ على التفكير من دون طلب إذن من راهب دومينيكي، ومن هنا يواصل وصفه للوضعية في شتى أنحائها، بأنّه كان سيكون أسعد الناس بهذه الحرية الملهمة للعباقرة الإنكليز لولا أنّ الانفعال والتعصف لم يفسدا ما تملكه هذه الحرية الثمينة من قيمة.

يبدو أنّ كناديدنا كُثر، وأكثر منهم لُصوص النّصوص، وقراصنة المعنى، وكذلك حين يمسك برومثيوس مزيّف بنار تحرق أنفه قبل أن يصل بها إلى قبيلته، تراجيديا مغشوشة، أبطالها مزيفون، جوفاء إلا من تمثّلات غير مُلفتة، يخدعنا الشكل فيُخضعنا لسلطة التّفاهة، إذا عدنا إلى موقف بوكوكورانتي، هذه المرة حين يسأله كونديد ببساطة وحسن نيّة، عن ميلتون، وهل هو رجل من العظام في نظره؟ وهو السؤال الذي ما زال يُطرح بين تخوم الأجيال التي يخونها تاريخ تنامي بكتيريا الفكر غير النّافع، بروز المثقفين المزيفين، سيجيب بوكوكورانتي كونديد قائلاً: “من هذا الهمجي الذي يشرح بإسهاب الفصل الأول من سفر التكوين بعشرة كتب مؤلفة من أبيات صعبة؟ هذا المُقلّد الفظّ للإغريق؟ الذي يشوه الخلق (…) والذي يجعله يكرر مئة مرة الحوارات نفسها…”.

ماذا تفعل النصيحة والرأي في ذهن الكناديد؟ تماماً كان كنديد قد تأسّف، لأنه حسب فولتير كان يحترم هوميروس ويحب ميلتون قليلاً، تأوّه كنديد وتأسّف، وكان رأيه أنّ هذا البوكوكورانتي متكبر لا يعجبه شيء، وكذلك يفعلون.

– من وحي آلامهم، نشأت فلسفاتهم، لا شيء هنا يأتي عفو الخاطر، أو في انتشاء الدّهماء، الفيلسوف الذي تتجاوزه الأحداث، هو كالدهماء الذين تتجاوزهم المفاهيم، كالقراصنة الذين ينبتون في صالونات التهريج، عن التكرار الذي يقودهم إلى ما قبل اليقظة الثانية، إلى مفاهيم منزوعة من سياقاتها، كلّهم في حالة هروب بالنفس وتهريب للمفاهيم، انظر إلى المشهد؟ تأمل وبرفق أكثر، بين الوعي والحدث مسافة لا يحدّها إلاّ خيال الدّهماء، لقد كبّلونا وأطلقوا سيقان البُلْه للريح؟،

– نملأ الفضاء العمومي بالضجيج، فيصبح مجالاً مُقرفاً لما ينوء به من استهانة بالوعي العام، أفضل طريقة لتحفيز المثقف للهروب والتحلل من مسؤوليته التّاريخية، بالأمس كان المطلوب أن لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم كما تعكسها صورة سعدان في وضعية قرفصاء مغمض العينين ويده تغطي أذنيه، بينما هو مطبق على شفتيه. اليوم، وجب فتح العيون حدّ الحنززة، البرققة، وفتح الآذان كالجِراء والأبواز كأفراس النهر. اليوم يأتيك تافه القول محمولاً، على نمط الوجبات الخفيفة.

– من أوكار الظلامية لن ترى النّور، من دكاكين السمسرة والسياسوية لن يخرج نضال، من رقصة غير ديونزوسية لن يخرج تنوير، في مهرجان سباق العبيد، الفائز عَبْد أشطر.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
ناقش مذكرة تتضمن توجهات السياسة الاقتصادية للمرحلة المقبلة.. مجلس الوزراء يوافق على إحداث شعبة الانضباط المدرسي ضمن المعاهد الرياضية "ملزمة التعيين" وزارة الدفاع: قواتنا المسلحة تستهدف آليات وعربات للإرهابيين وتدمرها وتقضي على من فيها باتجاه ريف إدلب الجنوبي مشاركة سورية في البطولة العالمية للمناظرات المدرسية بصربيا القاضي مراد: إعادة الانتخابات في عدد من المراكز في درعا وحماة واللاذقية «لوجود مخالفات» غموض مشبوه يشحن الأميركيين بمزيد من الغضب والتشكيك والاتهامات.. هل بات ترامب أقرب إلى البيت الأبيض أم إن الأيام المقبلة سيكون لها قول آخر؟ حملة تموينية لضبط إنتاج الخبز في الحسكة.. المؤسسات المعنية في الحسكة تنتفض بوجه الأفران العامة والخاصة منحة جيولوجية ومسار تصاعدي.. بوادر لانتقال صناعة الأحجار الكريمة من شرق آسيا إلى دول الخليج «الصحة» تطلق الأحد القادم حملة متابعة الأطفال المتسرّبين وتعزيز اللقاح الروتيني دمّر الأجور تماماً.. التضخم لص صامت يسلب عيش حياة كريمة لأولئك الذين لم تواكب رواتبهم هذه الارتفاعات إرساء القواعد لنظام اقتصادي يهدف إلى تحقيق الحرية الاقتصادية.. أكاديمي يشجع على العودة نحو «اقتصاد السوق الاجتماعي» لتحقيق التوازن بين البعد الاجتماعي والاقتصادي