اكتشف نفسَه على رصيفِ الانتظار الأديب والمترجم علي ناصر: ليتني عشت الطفولة كطفل لأعرف كيف يستعيد الكبار حياة الطفولة
تشرين- حوار ثناء عليان:
القاص والمترجم علي ناصر من شاغلي الثقافة في الأوساط الثقافية في محافظة طرطوس، درس الهندسة في بلغاريا، وبدأ ترجمة القصص للأطفال ظنَّاً منه أنَّها الأسهل، لكنه اكتشف أن عالم الطفل أكثر تعقيداً من عالم الكبار.. لديه مجموعة من المخطوطات في القصة، وفي رصيده الكثير من المؤلفات والترجمات تتضمن دراسات وقصصاً للأطفال وروايات نذكر منها: “سر الهارب من البوليس، سميرة الصغيرة، سكرتيرة، كنة أبي غسان، المعلمة أويشي، كيف أصبح عدنان مجتهداً، ماري، شموس وأصدقاؤه، لجة الألم، مسارب التيه، طقس بارد، وحكايات شعبية بلغارية.
الهندسة في العقل تشبه القلب في الجسم.. تنشط دورة التفكير وتحفز طبيعة البحث
للتعرف على تجربته الإبداعية في الترجمة والتأليف كان لـ “تشرين” معه هذا الحوار.
* سؤال لا بدَّ منه؛ من هو “علي ناصر” وكيف يُعرِّف القارئ إليه؟
علي ناصر؛ رجلٌ اكتشف نفسَه على رصيفِ الانتظار، يراقبُ بعضَ النباتات الصغيرة المزهرةِ وقد بزغتْ بين حجارة الرصيف المشوَّهة، تلتوي غيرَ عابئة بمَن يدوسها أو يتجاوزها عفواً أو قصداً من المشاة.. كان هذا الرصيف بكائناته اللطيفة والعشوائية معلمي بعد رحيل عمر الانتظار.. وعلي ناصر الآن يرى أنه ليس سوى نبتة مماثلة لا تزال صامدة الجذور رغم أفول المشاة جميعاً.
في علم الطفل
* كانت بدايتك مع الترجمة بالترجمة للأطفال، ما الدافع لتكون البداية من عالم الطفل؟
بدأتُ قراءة الآداب باللغة الإنجليزية والترجمة منها في سنتي الدراسية الجامعية الأولى في بلغاريا، حرصاً مني على عدم نسيان اللغة الإنجليزية التي أجيدها، وبدأت بقصص الأطفال ظنَّاً مني أنَّها الأسهل، لكنني اكتشفت أنَّ عالَم الكتابة للطفل أكثر تعقيداً من عالم مخاطبة الكبار من حيث التركيبات اللغوية الخاصة بالطفل من جهة، وطريقة مخاطبة الطفل في العالم الحضاري الأوروبي المختلفة جذرياً من جهة ثانية، الأمر الذي حفَّزني أكثر للتعمق في ترجمة أدب الأطفال، والكتابة فيما بعد للأطفال.
يحتاج الأديب لدعم إنتاجه الفكري بتسهيل الطباعة وتوزيع إبداعاته
* هل «علي ناصر» هو «طفل كبير»؟ كيف تفسّر خطابك وتواصلك مع عالم الطفولة والمراهقة في مجموعتك القصصية “كيف أصبح عدنان مجتهداً” وفي ترجمتك لمجموعة “سر الهارب من البوليس” للفتيان؟
ليتني عشتُ الطفولة كطفل لأعرف كيف يستعيد الكبار حياة الطفولة! كنت الابن الأصغر في بيت علمٍ يزوره معظم ساعات اليوم طلبة العلم من الكبار، وفيه مكتبة تضمُّ كتباً شديدة التنوع، قرأت فيها، طفلاً، كتب تربية الطفل، وروايات فيكتور هيجو وتشارلز ديكنز وجرجي زيدان وجبران خليل جبران وغيرهم، وتابعت تكوين مكتبتي الخاصة من الروايات العربية والمترجمة منذ الصف الخامس الابتدائي. وكان الشارع حيث بقية الأطفال غير محبّذٍ من الأهل وصار غير مرغوب شخصياً مني. وبما أنني كنت أراقب بعين الناقد انشغال الأطفال الآخرين في اللهو واللعب في الشارع وابتعادهم عن الكتاب المفيد، بتُّ كبيراً أكتب لهم في سلسلة “العادات الحميدة” كيف عليهم الجمع بين اللعب وممارسة الهوايات المفيدة والتعلم كوسيلة متكاملة لخلق جيل متكامل التكوين الحضاري الذي يحتاجه تطور الوطن حاجة ماسة.
سلسلة العادات الحميدة
* كتبت مجموعة قصصية بعنوان “شموس وأصدقاؤه” وقلت في ذات حوار إنها موجهة لأطفال الخليج، ماذا تقصد بأنها موجهة لأطفال الخليج؟ وما الفرق بين أطفال العرب وأطفال الخليج؟
عملتُ بضع سنين في المملكة العربية السعودية وكنت أنشر في مجلاتها وصحفها وأشارك في نشاطاتها الأدبية والثقافية، وتعرفت إلى إدارة التعليم في “سراة عبيدة” التي تتبع لها تعليمياً عدة محافظات في جنوب المملكة، وكانت تلك الإدارة النشيطة قد أطلقت مشروع “شموس النظيف” الذي يهدف إلى زرع حب النظافة في عقل وتفكير الطفل. فكتبت لها مجموعة “شموس وأصدقاؤه” القصصية للأطفال، مشاركة مني في هذا المشروع النبيل، لذلك كانت بيئة القصص بيئة خليجية، أضفتُ إليها معلومات تقنية وحضارية أخرى، بأسلوبٍ غير مباشر يحبه الأطفال، وأثار إعجاب الإدارة التربوية هناك.
* ما الدافع للتوغل في عالم الطفل من خلال ترجمتك لكتاب “علم نفس الطفل والطب النفسي للأطفال” عن الإنكليزية؟
الطفل هو كائن شديد الملاحظة والحساسية، وصناعة الإنسان تبدأ في الأيام الأولى من حياة الجنين وتستمر بضع سنوات على الأقل بعد الولادة. نحن في تخلفنا لا نهتم بالإنسان كما يفعل الغرب المتحضر، فكيف نهتم بما لا نعرفه أو نجيده؟ هذا الكتاب ضروري لكلّ مكتبة بيت، لتعدد دراساته من حيث مجالات وجغرافية وحالات معاناة العائلات التي تضم أو سوف تضم بين حناياها أطفالاً.
وهو نتيجة عشرات ومئات الدراسات العلمية والواقعية لعشرات الباحثين المختصين في عدد كبير من الدول، وبترجمتي هذه أضيف كنزاً معرفياً ثميناً إلى القارئ العربي المهتم بنفسه وبعائلته وبمجتمعه، ويعود الفضل للهيئة العامة السورية للكتاب في وزارة الثقافة السورية لاختيار هذا الكتاب، والترجمة تمت لصالح تلك الهيئة، مشكورة.
من واجبات الأديب توجيه النظر إلى ما يعوق تطور المجتمع
* تقول “أقرب الكتابات تلك التي لا تغادر القلب”، ما هي الكتابات التي دخلت قلبك ولم تغادره؟
قصدت بمقولتي تلك، الكتابات التي كتبتها ولا تريد الخروج من قلبي، وحين تتلوها عيناي تفيضان بسُقياها، كثيرة هي العبارات التي لا أجرؤ على قراءتها جهراً ولو كنت في حجرتي وحيداً، نعم، تلك هي المشاعر النابتة كلماتٍ نابضة بخفق القلب والمتشبثة بنياطه تأبى الخروج إلى عالم يسوده ما يسوده من سموم الرياء والنفاق والتخلف والخديعة والغدر والحقد والجبروت الغبي!
اثنا عشر طفلاً يابانياً
* ترجمت رواية “المعلمة أويشي” اليابانية عن البلغارية، ما الذي أثار حفيظتك لترجمة هذه الرواية؟ ولماذا لم نرَ لك روايات مترجمة من الأدب البلغاري؟
تتحدث هذه الرواية التربوية عن اثني عشر طفلاً يابانياً بريئين اجتمعوا في صف معلمة فقيرة نذرت روحها لبث الحب فيهم، لكن أثر الحرب العالمية الثانية شتَّتتهم شباناً بين شهيد ومشوه وعاطل عن العمل. هي رواية تكشف سر عظمة الشعب الياباني العظيم الذي خرج بعد مذبحتي “هيروشيما” و”ناغازاكي” والحرب المدمرة للحجر والبشر، ليتصدر كل شعوب العالم بما فيه من حب الوطن والمستقبل المشرق لهذا الوطن، لقد زرت اليابان مرتين وتأكدت بنفسي من عظمة هذا الشعب وحكمة قيادته. وفي ترجمتي لهذه الرواية ثمة حرص على تعلم ما يجب معرفته من أسرار تفوّق الشعب الياباني حضارياً.. وجواباً على الشق الثاني من السؤال، فقد ترجمت عن البلغارية فيما بعد رواية “طقس بارد” ونشرَتْها مشكورة وزارة الثقافة، و”حكايات شعبية بلغارية” للكاتب البلغاري المشهور أنجل كارالييتشيف، و”قصص بلغارية معاصرة.”
عن الترجمة المعكوسة
* أنت مثل كثير من المترجمين الذين ترجموا في اتجاه واحد، لماذا لا نرى إلّا القليل من الترجمة العكسية “من العربية إلى لغة أخرى” برأيك؟
هذا سؤال يجب أن يوجَّه لمن يهمه الأمر بنشر الأدب العربي والثقافة العربية في اللغات الأخرى. لدينا كفاءات تستطيع الترجمة العكسية لكن الفكرة غير مقبولة من قبل من يهمهم الأمر، وكنت قد سألت عن السبب فقالوا إنّ “المطلوب” يحدد حاجة الوطن على الترجمة إلى العربية وحسب! وشخصياً قمت بكتابة ونشر ديوان شعر شخصي باللغة البلغارية مذ كنت طالباً في بلغاريا، وقد منحت به عضوية اتحاد كتاب بلغاريا عام 1986، كما قمت بالاتفاق مع الأديب الراحل عدنان كنفاني بترجمة مجموعته القصصية “وتطير العصافير” إلى اللغة الإنجليزية. ولديَّ حالياً مشروع بعض الترجمات إلى اللغة البلغارية. وأنا على استعداد للترجمة إلى اللغتين الإنجليزية والبلغارية ونشرها عالمياً.
* قدمت مجموعة قصصية باللغة العربية بعنوان “كنة أبي غسان” في عام /1990/ تنتقد فيها العادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية، هل تغيرت هذه العادات والتقاليد في القرن الـ( 21 ) وهل أصبحت العلاقات الاجتماعية أفضل برأيك؟
من أهم واجبات الأديب توجيه النظر إلى ما يعوق تطور المجتمع، وقد حرصت، كما يفعل كثيرون، في جميع كتاباتي على اختلاف أجناسها إلى الإشارة إلى مظاهر التخلف التي تتفاقم يوماً يعد يوم. ولكن للأسف الشديد، تفاقمت هذه العادات وارتدت أثواب منتجات الحضارة البرَّاقة فوق جلدها المتعفن وكريه الرائحة! لعلّ القوى التي بذرت بذور التخلف لاتزال تهتم بحرص كبير على تنويع وتطوير بذارها وتكليف من يهتمّ ويعتني به بين ظهرانينا وأمام أعيننا!
* دراستك للهندسة ماذا أضافت لك ككاتب ومترجم؟
الهندسة في العقل تشبه القلب في الجسم، تُنشّط دورة التفكير وتُحفّز طبيعة البحث، وتثير بالشكوك مكامن المسائل، فتكشف أسرارها وتجلو خباياها الطيبة وغير الطيبة، هذا في الكتابة الإبداعية، أما في الترجمة فهي تلعب الدور ذاته تقريباً ولكن بالبحث في مكامن الإبداع الأجنبي؛ أضطر أحياناً لدراسة مواضيع ترتبط بموضوع ترجمة مقطع من نص أو كتاب لكي تكون ترجمتي شديدة الدِّقة، بحيث أنقل قصد الكاتب الأصلي، وهذا ما يدعى أمانة الترجمة.
بعيداً عن المنابر
* لماذا أنت بعيد عن المنابر الثقافية ونشاطاتها؟
أفخر ببعض المنابر التي نشطت فيها قديماً جداً في المراكز الثقافية المختلفة، حينما كانت الرؤى الثقافية تديرها، وفي بضع سنوات ولفترة من الزمن نشطت في الإذاعة والتلفزيون، وقدمت بالتعاون مع الإعلامية صباح إبراهيم برنامج “كنوز اللغة والأدب” في 31 حلقة أسبوعية، وثلاث حلقات مميزة بعناوين “التخلف” و”الثقافة” و”الأخلاق” ضمن برنامج “مصطلحات” وغيرها،
* برأيك ماذا يحتاج المثقف والأديب معاً؟
يحتاج المثقف إلى فسحة كبيرة يغني من خلالها ثقافته ويضيف فيها ما ينتجه من ثقافة، وهذا يعني توفير الكتاب له بسعر مقبول، وكذلك مصادره وأن يتوفر له منبر العطاء الثقافي. أما الأديب فهو أيضاً بحاجة إلى تلك الفسحة، يضاف إليها دعم إنتاجه الفكري بتسهيل طباعة وتوزيع إبداعاته، وحماية حقوق التأليف في ظل فوضى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في بلدان العالم الثالث.
* أنت تقيم حالياً في بلغاريا، هل لديك ما تضيفه حول تجربتك الأدبية هناك؟
** بلغاريا بلد منحني لغته وفضاءات علومه وآدابه، عملياً بدأت تجربتي الأدبية تنضج هناك حينما كنت طالباً، وتمثلت في البداية بكتابة الشعر باللغة البلغارية، وقد حصلت على جوائز أدبية كثيرة فيه، أعظمها كانت عام 1986 وهي المركز الأول في “مسابقة الشعر البلغاري” على مستوى جامعات بلغاريا، وكنت قد حصلت قبلها بعام واحد على المركز الثاني. وقد قامت الجامعة التي كنت أدرُس فيها بطباعة ونشر ديواني الشعري الأول، وحينما عدت بعد غياب 36 سنة، تم الاحتفاء بي في “المكتبة الوطنية كيريل وميتودي” في صوفيا العاصمة وهي أقدم وأضخم دار كتب في دول البلقان، وكانت ثمرة هذا الاحتفال توقيع اتفاقية تعاون ثقافي فيما بعد مع “مكتبة الأسد”. هذا وقد تم عرض اثني عشر كتاباً لي كنت قد أهديتهم للمكتبة في واجهتين بلوريتين فيها. وحالياً لدي بعض المشاريع الثقافية مع جامعة صوفيا، أرجو أن تكلل بالنجاح خلال الفترة الزمنية القادمة.