ملف «تشرين».. منعطفٌ خطير يُهدد الأنماط الوراثية للزراعة السورية.. حرب البذور تدُقّ ناقوس الخطر بأزمات غذائية ومخاطر بيئية
تشرين – بارعة جمعة:
حكاية البذور في سورية لا تختلف عن حكاية شعبها ومؤسساتها، التي كابدت للبقاء رغم التهديدات، فصولٌ من الحرب تعددت أجزاؤها وتصنيفاتها وفقاً لقطاعات استهدفت بأكملها، بدءاً بالطاقة وانتهاءً بالغذاء، الذي لم يكن يوماً حكراً على أحد، ولم يكن سلاحاً إلا بيد الطُغاة ممن استباحوا قطاعاً بكل تكويناته، كان اللبنة الأساسية لصمود الشعب في وجه كل محتل غاصب، فكيف لبلد كان يتمتع بالاكتفاء الذاتي من الحبوب أن يفتقد الوسيلة لإنتاجها؟! وكيف له أن يترك المزارعين مكتوفي الأيدي أمام التغييرات المناخية وموجات الجفاف مستنفداً منجم التنوع الوراثي الطبيعي إلى هذا الحد؟!
إليكم القصة كاملة…
سلاح استراتيجي
لم تعد وسيلة للاستنباط أو لتجارب التحسين الوراثي، بل باتت وجهاً من وجوه الحرب القذرة التي مارستها دول عُرفت بعدائها لشعوب المنطقة، وسلاحاً استراتيجياً تتنافس دول وشركات العالم الكبرى على احتكاره، هي البذور التي حرصت بنوك البذور منذ عقود على حمايتها بنسختها الأصلية، إلا أن البذور المعدلة جينياً اكتسحت مزارع الأرض، ما أدى لاختفاء البذور الأصلية منها، لغاية تصحير البلدان والقضاء على المحاصيل.
لم تعد البذور وسيلة للاستنباط أو لتجارب التحسين الوراثي بل باتت وجهاً من وجوه الحرب القذرة للغرب
خطة تتبع لسياسة الهيمنة الأمريكية على النظام الغذائي العالمي، تكفلت بتجويع شعوب المنطقة وسط تحذيرات خبراء من خطورة قيام مثل هذه السياسات، التي مهدت الطريق لاستيراد البذور، ما جعلها الأكثر تداولاً في الأوساط الزراعية، فما قصة هذه الحرب وما تداعياتها على الأمن الغذائي العالمي؟ وكيف لنا إنقاذها والحد من فقدان التنوع البيولوجي حماية للأجيال القادمة؟!
خطة مدروسة
محاولات مقصودة لتلويث التربة عبر البذور لحرمان الأرض من الإنتاج مرة أخرى، وإن تغير البذار، سياسة ممنهجة من القائمين على الاستيراد الذي فرض نفسه وسط حالة أمنية غير صحية في مناطق شرق سورية التي تتعرض يومياً لاعتداءات مقصودة نتيجة خروجها عن سيطرة الدولة، صور من الإجرام المقصود بحق أراضينا ومحاصيلنا قدمها عضو الهيئة التدريسية في كلية الزراعة جامعة تشرين الدكتور حسان خوجة لما آلت إليه الأحوال في مسألة البذور، وعلى وجه الخصوص القمح، الذي تم ضربه عمداً ضمن سياسة تلويث البذور التي احتوت مرض الفيوزاريوم الضار بصحة الفرد والمجتمع لفترة زمنية ليست بقليلة.
د. خوجة: عملية ضرب البذور مقصودة ضمن سياسة تلويثها بمرض الفيوزاريوم إضافة لتعديل وراثي عبر مضاعفة الحمض الأميني (الغلوتين) بمعدل خمسين ضعفاً وهو مضر بالصحة
كل ذلك لخدمة أهداف التجار المستوردين بهدف الربح، الذي يبلغ وفق تأكيدات الدكتور خوجة 50 ملياراً فما فوق، آخذاً بإحدى التجارب دليلاً وبرهاناً على ذلك، عند استيراد كمية مليوني طن من القمح بسعر 45، ومن ثم بيعه للدولة بمبلغ 67 ليرة، ما أنتج وفق الحسابات مبلغ 44 مليار ليرة سورية وهي أرباح التجار، أمام كل هذا سنجد بالطبع محاولات لمنع أي أحد يفكر لمجرد المحاولة بإنتاج أو استنباط قمح، لا بل محاربته والوقوف ضده ما جعل العمل غير مريح لجهة استنباط الهجن لا بل غير مسموح به أيضاً لأي نوع من البذور.
تجارب سابقة
من بينها بذور الخيار التي تم استنباطها في مدينة حلب ضمن دراسة مشروع دكتوراه لم تلق استحساناً وفق حديث د. خوجة لـ”تشرين”، يضاف إليها تجربة استنباط التبغ الذي تم تقديم بذوره مجاناً من اليونان وكانت متفوقة على الفارجينيا، إلا أنه وبعد الكشف عنها بدت البذور عقيمة تنتج ورقاً من دون بذور وهو ما يسمى انجرافاً وراثياً، هي حالة من الضغط السياسي الذي تعتمده هذه الدول بصفة محصول القمح هو غذاء للشعوب، ما جعل من التوجه سابقاً لزراعته محلياً بدلاً من استيراده، لكن اليوم ومع التركيز الأكبر عليه ضمن لعبة السياسة والاقتصاد تم ضرب المحصول بمرض الفيوزاريوم الذي يجبر المحصول على النضوج قسراً من دون إنتاج حبوب لضرب البذور وعدم تخزينها لمواسم أخرى.
التصريحات الأخيرة أكدت أن انتاج القمح لهذا العام هو ضعف العام الماضي، أي قرابة المليون طن وفق تأكيدات د. حسان خوجة.
هنا لا بد من التذكير وبعد كل ما ورد سابقاً، بأن التشجيع على الاستيراد يسوغ ضرب الموسم كل عام، وبالتالي رضوخنا لشروط القطاع الخاص وفق رؤية الدكتور حسان خوجة، لتبقى المنظمات العالمية مثل (الفاو) غير مأمول منها لكونها ضمن دائرة التبعية الأمريكية، إلى جانب جهات أخرى مازالت تُصادر خزان الاقتصاد الحيوي لدينا.
د. خوجة: جميع التجارب السابقة محلياً في مجال الاستنباط لم تلقَ استحساناً من المعنيين خدمة لأهداف المستوردين بالربح
هدف تجاري
لم يكن يوماً لخدمة الاقتصاد، أو لتحسين السلالات الوراثية، بل على العكس بات استهدافاً مباشراً لكل ما هو حي ببذور ملوثة بجائحات مختلفة وتحت غطاء تجاري بحت، توصيف دقيق لأبعاد اعتماد الاستيراد للبذور قدمه الدكتور بولص خوري اختصاصي تربية وتحسين النبات، يثبت تورط القائمين بهذا العمل بإدخال بذار أصناف عن طريق الصيدليات الزراعية لم تمر بالأساس على الكرنتينا سواء بالمرفأ أو المطار، وهو ما يثير العديد من التساؤلات أبرزها أين دور المنظمات أمام كل هذا؟!
د. خَوري: هناك عمليات لإدخال بذار عبر الصيدليات الزراعية لم تمر أساساً عبر الكرنتينا سواء بالمرفأ أو المطار
جهود (أكساد) والبحوث العلمية الزراعية محدودة برأي د. خوري، لخروج مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية عن سيطرة الدولة، كما أن الوضع شبه كارثي بموضوع تأمين البذار للمزارعين لا بل يبدو أنه موضوع كبير ومبرمج له أطرافه برأي خوري.
عجز
تنبه ويقظة من قبل التجار للمكاسب المادية العالية التي ستحقق فيما لو تمت عملية الاستيراد، يقابلها عجز لدى مؤسسة إكثار البذار عن تأمين بذار بمواصفات قياسية كالسابق، هنا كان المسوغ الأقوى للتجار لتأمين البذار للصيدليات الزراعية المختلفة من الذرة الصفراء السكرية كمثال، وفي نقطة متداخلة يوضح الدكتور بولص خوري العجز الحكومي في إلزام شركة معمل سكر سلحب بعض المزارعين بزراعة بذار الشوندر السكري في منطقة الغاب عبر عقود بين الطرفين، ليتم تحويل الإنتاج بعد نضوجه لمؤسسة الأعلاف بدلاً من قيام الشركة باستلامه.
د. خوري: جهود (أكساد) والبحوث العلمية الزراعية محدودة يقابلها عجز من مؤسسة إكثار البذار عن تأمين بذار بمواصفات قياسية
نعم.. إمكانيات المؤسسات الحكومية هزيلة أمام القطاع الخاص مع ندرة المياه، وهي مشكلة شائكة جديدة تضاف لخروج مساحات واسعة من الأراضي الزراعية عن سيطرة الحكومة، الذي بدوره أوجد برأي الدكتور بولص خوري مشكلة معقدة ومركبة.
نفي بالجملة
نعم.. هي مشكلة مركبة لا بل متشابكة الخيوط والاتجاهات، وبين النفي والإثبات للأزمة التي ليست ضمن قاموس وزارة الزراعة، ولم تعترف بوجودها أصلاً تعود التأكيدات الرسمية من قبلها على لسان مدير الإنتاج النباتي في وزارة الزراعة المهندس أحمد حيدر، الذي أكد لـ”تشرين” استمرار توزيع بذار القمح المعقمة والمغربلة للإخوة الفلاحين من قبل مؤسسة إكثار البذار وفق الخريطة الصنفية، التي تتم عملية إكثارها وفق برنامج إكثار علمي معتمد من الأصناف المعتمدة لدى اللجنة الوطنية لاعتماد الأصناف بعد دراستها من قبل الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية.
المهندس حيدر: المؤسسة العامة لإكثار البذار مستمرة بتوزيع البذار المغربلة والمعقمة وفق برنامج إكثار علمي مُعتمد من الهيئة العامة للبحوث الزراعية ولا يتم استيراد أو زراعة بذار مستوردة في سورية
هي عملية آمنة وسليمة تحمل بذوراً غير مصابة، كما بلغت تقديرات الإنتاج منها في المناطق الآمنة حسب بحث العينة العشوائية وفق تأكيدات حيدر قرابة 1098351 طناً للموسم 2022 – 2023، فيما بلغ إجمالي السوق منها لمؤسسات الدولة كمية 775241 طناً، هنا يعود المهندس أحمد حيدر للتأكيد أن لا وجود لأي عملية استيراد أو زراعة بذار قمح مستوردة في سورية، أما فيما يتعلق ببقية أنواع البذار المستوردة فهو يخضع لقانون الحجر الصحي النباتي السوري أيضاً.
ختاماً.. بعد الحديث المطول والشرح والتحليل والأخذ بالعديد من وجهات النظر.. يبقى لنا السؤال.. إلى متى ستبقى منظومة القطاع الزراعي رهن الحسابات الخارجية وخاضعة لمزاجية التجار والمستوردين؟
وأين هو دور المنظمات العالمية في الحفاظ على هذا القطاع من الاندثار سواءً بالتجهيزات أو المعدات أو مستلزمات الزراعة كلها؟؟..
اقرأ أيضاً: