شعراء المقاومة الفلسطينيون: بأَيْدينا لهذا اللَّيْل صُبْحٌ

تشرين- بديع صنيج:

كثير من النقاد يرون أن انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كانون أول عام 1987 ضد الاحتلال الصهيوني مهَّد لها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في ديوانه “مديح الظل العالي” (1983)، الذي أطلقه إثر مجزرة صبرا وشاتيلا وخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت.
ذاك الديوان تنبأ بانتصار الفلسطينيين المنكوبين، بعد أن وضع بياناً شعرياً للمقاومة يدعو فيه للقتال الميداني فهو السبيل الوحيد لتحقيق المطالب، ومن يتذكر قول درويش:
“حاصِرْ حصارَكَ لا مَفَرُّ..
اضْرب عدوَّك لا مَفَرُّ..
سَقَطَتْ ذراعُك فالتقِطْها..
وسَقَطْتُ قُرْبَك فالتقطْني،
واضرِبْ عدوَّك بي..
فأنتَ الآن حُرٌّ.. حُرٌّ وحُرُّ”
يشعر أن الواقع الثمانيني ينطبق على عملية “طوفان الأقصى” اليوم التي فاجأت العدو الإسرائيلي وكبدته الكثير من القتلى والرهائن وأكثر من المفاجأة والتخبط.
“وحِّدْنا بمعجزةٍ فلسطينيِّةٍ..”، قالها درويش فصدَّقتْها المقاومة والتزمت بفحواها، وما الطائرات الشراعية التي تحمل مقاتلين مقاومين، وما المقاومون الذين يصلون العمق الإسرائيلي بدراجات نارية نحو أهداف داخل مستوطنات العدو، وما الإرادة الصلبة لهؤلاء الأبطال إلّا صورة من صور المعجزة تلك.
يقول الشاعر الفلسطيني توفيق زياد في قصيدته “هُنا باقون”:
“كأننا عشرون مستحيلْ..
في اللد والرملة والجليلْ..
إنَّا هنا باقون..
فلتشربوا البَحْرَ..
نحرس ظل التين والزيتون..
ونزرع الأفكار كالخمير في العجين..
برودة الجليد في أعصابنا..
وفي قلوبنا جهنمٌ حَمرا..
إذا عطشنا نعصر الصخْرا..
ونأكل التراب إنْ جُعنا.. ولا نرحل”..
هذه القصيدة زاخرة بمعاني الصمود، وفيها رد صارخ على كل من يريد ترحيل الفلسطينيين من أرضهم المرة تلو الأخرى، وتتضمن تأكيداً أن المقاومة والثبات على المبادئ هي الحل الأمثل لتحقيق المعجزة الفلسطينية تلك، والتي لا تكتمل شعرياً من دون أسطرة الإنسان الفلسطيني الذي بات في حدّ ذاته رمزاً خاصاً، حقَّق قدرته الخارقة في زعزعة اليقين الإسرائيلي بقوته، وسطوته، ولو حَمَتها منظمات المجتمع الدولي وقوانينه غير العادلة، ولو وقفت معه أعتى القوى العالمية وأساطين أسلحتها الفتاكة.
لم يكن محمود درويش وسميح القاسم فقط من سطَّرا بقصائدهما ملاحم المقاومة، بل هناك راشد حسين وتوفيق زياد وسالم جبران وغيرهم من أصوات عَلَتْ من الضّفة الغربيّة وغزّة والشتات، أمثال معين بسيسو وفدوى طوقان وهارون هاشم رشيد وأحمد دحبور وعز الدّين مناصرة ويوسف الخطيب… مُشكِّلين بأشعارهم حالة ثقافية رافقت القضيّة الفلسطينيّة وغذَّتها ووحَّدتها في بعض الأحيان.
قصائد أولئك الشعراء، إضافة لكونها رافداً مهمّاً من روافد الوعي الفلسطينيّ، استطاعت أن تشكل جبهة تزعج قادة الكيان الصهيونيّ، لذا قاموا بمضايقتهم والتضييق عليهم، ووصل بهم الأمر إلى اغتيال بعضهم، وخير دليل على أثر تلك الأشعار الكلمات المشهورة التي قالها موشيه ديان بعد حرب 1967، بأنّ قصيدة يكتبها شاعر مقاوم تعادل عنده عشرين «فدائياً»، وبالمثل ما صرّحت به غولدا مائير بأنّ التخلّص من غسّان كنفاني بالنسبة إلى “إسرائيل” يعادل التخلّص من كتيبة محاربين.
وبما أنّ القضيّة الفلسطينية لا تزال منذ ما يقارب الـ75 عاماً جرحاً نازفاً، لذا ظل شعراء المقاومة الفلسطينيّة في إبداع قصائد تقارع المحتل وتوصف حال الإنسان الفلسطيني ومقاومته الإعجازية، بمعنى؛ إنه على الرغم خفوت وقع الحالة الثوريّة في القضية الفلسطينيّة، ولاسيّما بعد اتفاقات أوسلو، وعمليّات السلام والتطبيع بين دول عربيّة و(إسرائيل)، إضافة إلى الأزمات والحروب الداخليّة في دول عربيّة أخرى، إلّا أنّ جذوة شعر المقاومة لم تنطفئ.
ربما تحولت القصيدة من صيغتها الجمعية إلى نوع من الفردية العمومية، لكنها بقيت مع حداثتها قادرة على إحراز خصوصيتها، وكأن الجرح الفلسطيني مازال ممتداً في عروقها، وعن مثل تلك الاستمرارية الشعرية يمكن الحديث عن الشاعر تميم البرغوثي صاحب قصيدة القدس الشهيرة، ومن المميز قدرته على تصوير الحرب الأخيرة على الفلسطينيين، ففي قصيدته “غزة” يقف على مجريات الأحداث، وكأنه يعاين كل مشهديات الحياة هناك، راوياً مجريات المعركة ومعاناة الإنسان الفلسطيني وهو يتجرع دخان القنابل الفسفورية وغبار جنازير الدبابات، إذ إنه بكلماته يبدو كمن يقرأ الموت الجماعي، ويتلو بياناته العسكرية بلغته الخاصة.
جاء في قصيدته غزة:
“يقولون في نشرة العاشرةْ..
إن جيشاً يحاصر غزة والقاهرةْ..
يقولون طائرة قصفت منزلاً..
وسط منطقة عامرةْ..
فأضيف أنا:
لن يمر زمان طويل على الحاضرينْ..
لكي يَرَوُا المسلمين وأهل الكرامة من كل دينْ.. يعيدون عيسى المسيح إلى الناصرةْ..
والنبي إلى القدس،
يهدي البراق فواكه من زرعنا..
ويطوقه بدمشقْ من الياسمينْ..
يقولون جيش يهاجم غزة من محورينْ..

يقولون تجري المعارك بين رضيع ودبابتينْ..
فأقول أنا:
سوف تجري المعارك في كل صدر وفي كل عينْ..
وقد تقصف المدفعية في وجه ربك ما تدعي من كذبْ..
ويقول العدو لنا فليكن ما يكونْ..
فنقول له:
فليكن ما يجبْ.
أما في قصيدته التي نشرها مؤخراً بعنوان “بيان عسكري” فيحمِّل كلماته النفس المقاوم بلغة تميل للتحريض وتشحن العواطف والقلوب، واقفاً على أدق التفاصيل في حياة الإنسان الفلسطيني بلغة عالية التقنية تعيدنا إلى الكلاسيكية القديمة ضمن إطار الحداثة، وهي لغة بسيطة لاتحتمل التعقيد أو التلاعب بالألفاظ، وكأنه يتحسس موضع الجرح والألم ويقرأ التفاصيل اليومية المعيشة ويؤقلم حروفه النازفة لتقولها.
يقول في تلك القصيدة:
“إذا ارتاح الطغاة إلى الهوان
فذكرهم بأن الموتَ دان..
ومن صُدَفْ بقاء المرء حَيَّاً
على مرّ الدَّقائق والثواني..
وجثة طفْلَةْ بممر مَشْفَىً
لها في العمر سبع أو ثمانٍ..
على بَرْد البلاط بلا سريرْ
وإلا تحتَ أنقاض المباني..
كأنَّك قُلْت لي
يا بنتُ شيئاً عزيزاً لا يُفَسَّر باللسان..
عن الدنيا وما فيها
وعني وعن معنى المخافة والأمان..
فَدَيْتُك آيةً نَزَلَتْ حَديثاً
بخيط دَمٍ عَلَى حَدَق حسَان”.
ويتابع في قصيدته:
“نقاتلهم على عَطَشْ
وجُوعْ وخذلان الأقاصي والأداني..
نقاتلهم وَظُلْمُ بني أبينا نُعانيه كَأَنَّا لا نُعاني..
نُقَاتلُهم كَأَنَّ اليَوْمَ يَوْم وَحيد
ما لَهُ في الدهر ثَان..
بأَيْدينا لهذا اللَّيْل
صُبْح وشَمْس لا تَفرُّ منَ البَنَان”.
أي أن شعر المقاومة الفلسطينيّة بكلّ أجياله، سيظل تجربة فريدة وحالة وطنيّة استثنائيّة، كاستثنائيّة القضية الفلسطينية، التي لا تزال جرحاً عربيّاً وإنسانيّاً مفتوحاً على مدار ما يزيد على 75 عاماً، في زمن يشهد أطول احتلال للأرض والإنسان والمقدّسات، لكنّ شعر المقاومة الفلسطينيّة سيبقى شاهداً يؤكّد أن الاحتلال لم يستطع بكلّ قدراته وإمكاناته تغييب الوعي، وتجريف الذّاكرة ومحو الهويّة والانتماء والصّمود، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار