حديث مطوّل بين الشعرية والأدبية الأديب عبد الحميد: إن كنتَ تفهم الهوية الأدبية فاكتب الشعر، وإن كنت مشغولاً في قضايا الإنسان فاكتب الأدب
تشرين- ثناء عليان:
أقامَ فرع طرطوس لاتحاد الكتاب العرب نشاطاً ثقافياً نوعياً، استضاف فيه الأديب عبد الحميد يونس، لإلقاء محاضرة اختار لها عنواناً لافتاً للاهتمام وغير مطروق (بين الشعرية في الشعر، والأدبية في الأدب).
بدأها بتعريف(الهوية): وتعني الدخول إلى الذات ووضعها في مواجهة الآخر، وقال: إن كنتَ تفهم الهوية الأدبية فاكتب الشعر، وإن كنت مشغولاً في قضايا الإنسان والتاريخ والعالم من حولك فاكتب الأدب (وعنى بهذا التوصيف القصة والرواية والمسرح وخلافها من فنون التجنيس الأدبي غير الشعري) وتابعَ (يونس): إن كنتَ شغوفاً في التأمل بما يُكتب في الأدب لأجل الحياة؛ فاكتب النقد.
سقط الأدب الملتزم لأنه وقع في فخ الإيديولوجيا
كانت هذه المقدمة اللمَّاحة بداية لدخول الناقد يونس في محراب الشعر بتفاصيله وبدقائقه، إذ يقول: في الشعر تدور حول ذاتكَ أولاً أو تلاحقها، وفي الأدب تدخل إلى حيوات البشر والأحداث، وهناك نقد يقول بموت الكاتب في أدبه، بمعنى غياب(أنا) الكاتب المباشرة، وعدم ظهورها فيما يكتب، وهذا يصح في القصة والرواية، ولا يصح في الشعر، لأنّ الشاعرهو البطل في شعره، والآخرون هم الأبطال في الأدب، فالشاعرلا يموت في شعره، أيّ لا يغيب ظله منه، والكاتب لا يعيش في أدبه، أيّ لا يظهر صوته فيه، فالشاعر يصنع بطولة وهمية ويتباهى بها كأنها حقيقية، أمّا الكاتب فينسب البطولة إلى غيره كأنه لا يتقنها.
ترف اللغة:
وطرح الناقد يونس سؤالاً عن معنى الشعرية والأدبية، ليجيب: الشعرية هي كل ما من شأنه أن يجعل الكلام شعراً، فإن جمعتَ لغة التواصل ولغة الشعر تكون أمام الشعرية، وإن جمعت الهيكل العظمي للحكاية وعناصر القصة تكون أمام الأدبية.
نجحَ الشعر الحديث في ركوب صهوة العقل
ويرى أنّ الشعرية هي ترف اللغة في الشعر، والأدبية هي جمالية ملامسة اللغة للحياة ولأحداثها، وعندما يفتقد الشعر إلى الشعرية والتواصل يفشل في أداء مهمته، كما يرى أن الشعر فردي النزعة، ينطلق من الفرد إلى الفرد، ومن ضروراته حضور صوت الفرد وغياب صوت الجماعة، أما الأدب فهو جماعي التوجه وميدانه الأحداث، وأما الأدبية فعكس ذلك؛ إذ تقتضي غياب صوت الفرد وحضور صوت الجماعة، والشعرية تكاد تتقدم على كل شيء في المضمون والمحتوى بينما الأدبية لا تريد ذلك.
شعر مؤدلج:
فأهم خصائص الشعرية – ضيف يونس- إقحام الذات الشاعرية في كل شيء، والأدبية من جهتها تحيِّد الذات الكاتبة عن كل ذلك، وربما لهذا السبب تداعى الشعر الملتزم، فهو شعر مؤدلج لأنه غيَّر في طبيعته وفقراته إلى ميدان ليس له ولا يخص مفهوم الأدبية! وسقط الأدب الملتزم لأنه وقع في فخ الإيديولوجيا، فغيَّر في جهته وطبيعته، وعندما نكون في حضرة النص الشعري نكون على مقربة من الشعرية التي تعمل على التأثير في المتلقي، وعندما تدفعنا إلى الجريان خلف المعاني والدلالات نصير بذلك داخل الشعرية من دون أن ننتبه.
كما طرح الأديب يونس ثلاثة أسئلة مهمة: 1 ــ ما هي مساحة الشعر؟ 2 ــ ما أدواتها؟ 3 ــ ما أسبابها؟
وتوقف عند هذه الأسئلة الثلاثة بالتوصيف وبالإجابات، وانتهى إلى أنّ الشعرية في الشعر تقابلها في الأدب الأدبية، ما يشير إلى أنّ هناك فروقاً كبيرة بين الشعرية والأدبية.
كذب جمالي:
خلف الشعر- يضيف يونس- هناك ذات تطرح خصوصيتها وتخرج عن القاعدة، وترفع حضورها إلى المقام المخالف، والشعرهكذا يصبح صوت الرائي لأناه في علاقته مع الآخر وليس هناك شروط لهذه الذاتية إلا الإعلان عن نفسها والتأثير والكذب الذي يختلف في الشعر عن غيره، فهو كذب جمالي.
والشعر هو صوت الفرد الحر الموجّه إلى الآخر المعلوم أو المجهول، فيما الأدبية هي(أبعاض)شعرية ليست مُكثفة تتداخل داخل العمل الأدبي، فالبطولة في الشعر هي الشاعر نفسه ولغته ومعانيه، أمّا البطولة في الأدبية فهي في الخارج وليس في الذات (في المجتمع، الحياة) وهي متعددة المصادر.
ابن المشاعر والعاطفة:
والشعرية _حسب يونس_ هي أول ما عُرفت عند البشر ووُجدت في الشعر قبل النثر، لأنّ الشعرهو الأقدم في التاريخ، وعندما استحدثَ الإنسان الأدب كان لا بدّ له من شعرية خاصة هي(أدبية الأدب).
عندما يخرج الشعر من الذات يصبح وجهاً لوجه مع أدبيّته، ها هنا قد تأدَّب الشعر ولكنه عندما يتأدب (والكلام للمحاضر) سيكون لنا معه كلام ليس في صالحه، إنّ أدبية الشعر خطرٌ عليه، أي خروج الشعر عن ذات الشاعر باتجاه المجتمع والعكس، والأدب لا تُعيقه الشعرية كثيراً، لكن من دون أن يتمادى فيها، فالتمادي ــ حصراً ــ يتبع خصوصية الشّعر…
الشعر الحديث سيد التكثيف والخيال والغموض الجمالي
كما أنّ الشّعر هو ابن العاطفة والمشاعر، لكن الشّعر الحديث غامرَ في الخروج من الذات، لأنّه خرجَ إلى ما بعد المجتمع باتجاه الوجود، الكون، فلسفة الحياة وطرحه لمواجهة عمق الأشياء وما خلفها، وقد نجحَ الشّعر الحديث في ركوب صهوة العقل، وقَبِلَ الشعر أن يتلبَّس العقل بدلاً من العاطفة، وبهذا الخروج للشعر المركَّب، الخروج عن نمطية الوزن والقافية والغموض، اكتسبَ الشعر نفسه أبعاداً ومساحات أوسع، فأجاد.
سيد التكثيف والخيال:
ويستطرد المحاضر شارحاً الفكرة، فيرى حسب قناعته أنّ خروج الشّعر الحديث عن نظام الوزن والقافية ليس خروجاً شكلياً، بل لأنّه غيَّر في لعبة المضامين وركَّز جهده على المجاز والانزياحات اللغوية والمعاناة الفردية مع الآخر، والشّعر الحديث سيد التكثيف والخيال والغموض الجمالي والتشدد في الخصوصية، وهذه السمات أهم سمات الشعرية الحديثة، فإنّ افتقدَ ذلك أضاعَ نفسه.
الأدبية من ناحية أخرى يخفُّ وهجها، لأننا لا نستطيع أن نحذف كثيراً من النص الذي قد يصل أحياناً إلى مائة صفحة، أيّ لا نستطيع تكثيفها كما في الشّعر!
اصطياد المعاني:
وفي مقارنةٍ من نوع آخر رأى المحاضر أنّ الأدبية تتمدد أفقياً، والشّعر يتجه عمودياً، ولا يصح تبادل الأدوار؛ فعمودية الشّعرلا تناسب القصّ، وأفقية القصّ لا تناسب الشّعر، وبخصوص رأيه في الشّعر العمودي ذي البيت الشّعري الواحد، يعتقد المحاضرأنّه ليس نصاً عمودياً تماماً وليس أفقياً تماماً (العمودية هنا تعني الاختزال والتكثيف وعدم التمدد في الكتابة على الورق، والأفقية عكسها)، فإنّه بتعبيرٍ آخر (شعر العجشواء) الذي يصيد المعاني، وأكثر ما يميّزه الموسيقا والوزن، وأفقية الشّعر الحديث هي أكثر خطورة على الشّعر من أي شيء آخر، لأنّه سيفقد الجماليات التي استحدثناها فيه، والشّعر الحداثي الذي لا يتعامل مع الجوهر يخسر، وبالانتقال إلى المقارنة مع الأدب (القصّة والرواية وغيرهما) فلهذا الصنف الكتابي حياة مستقلة، فهو ليس صورة صافية عن الحياة، وليس قطعة من الحياة، إنّه حياة أخرى لها جماليتها لكنها ليست الواقع ذاته حسبما يدَّعي بعضهم، ولو كان الأمر كذلك لاكتفينا بالواقع الذي نعيشه، ولما كان هناك حاجة إلى الكتابة!
التشويه المتأدب:
أما بخصوص الشخصيات الأدبية، فيرى يونس أننا لا نصلح أن نكون شخصيات أدبية إلّا بعد عمليات كثيرة، ففي التحولات كان(التشويه المتأدِّب) يُسهم في تخليق الحالة الأدبية.
وأكثر الشخصيات الحياتية تشويهاً أوإهمالاً أو رفضاً أو غباءً، قد تكون الأنسب والأكثر بروزاً، لأنّ الأدب الرفيع يعلم كيف يلعب على النقص بنجاح.
وفي الشّعر نحن لا نواجه أعماق روح الشّاعر بل شخصيته الافتراضية ونزواته وأمراضه، نواجهه بكل تحولاته، ونواجه دلالات الكلام المفتوحة، نتقبَّل الشّاعر كما خلقهُ الله بكل مِلحه ومُلوحته وتشوُّهاته وأكاذيبه. وفي الشّعر نعرف التسامح ونطبِّق الحرية وقيم الديموقراطية، لكن فلنحذرْ: الشّعر الحقيقي ليس ماجناً ولا شيطاناً ولا بعابث، بل إنّه صوت الإنسان الحر، المؤمن بالحياة.
وختم الناقد عبد الحميد يونس محاضرته قائلاً: تجبَّر أيّها الشّعر، اقبضْ على المعاني ثمّ اصرفْها، وأيّها الأدب تبختر قدر ما تستطيع.