في الطريق إلى «دغريون» لإنقاذ الأغنية من وحل الكلمات.. (قصائد) مروان دريباتي الموسيقية وتجارب الاحتماء بالنص

تشرين- حوار – علي الرّاعي:

“أجمل ما تكون أن: تخلخل المدى
الآخرون بعضهم يظنك النداء،
وبعضهم يظنك الصدى..
أجمل ما تكون حجة للنور والظلام..
يكون فيك أول الكلام،
ويكون فيك آخر الكلام..
والآخرون بعضهم يرى إليك زبدا،
والآخرون بعضهم يرى إليك خائفاً..
أجمل ما تكون هدفاً مفترقاً
للصمت والكلام
يكون فيك أول الكلام
يكون فيك آخر الكلام”
رغم شهرته كعازف عود، ومؤلف موسيقي على مدى سنين طويلة، غير أن (الكلمة) طالما شكلت غوايةً للفنان مروان دريباتي، سواء الكلمة الخاصة به التي يصوغها كقصيدة، وله في هذا المجال مجموعة شعرية رائعة عنونها بـ(شمس تحبُّ الشهرة) الصادرة عن دار بعل بدمشق.. أو بغواية الكلمة التي يخطها آخرون أصدقاء وغير أصدقاء التي تدفعه لتلحينها تارةً، أو لإيجاد المُعادل الموسيقي لتلك النصوص..
ومروان وضع ألحاناً، ومقاربات موسيقية لنصوص، كان الظنُّ أنه من المستحيل أن تُلحن نظراً للحالة السردية العالية التي تتشح بها تلك النصوص.. منها مثلاً هذا النص للشاعر السوري محمد عُضيمة المقيم في العاصمة اليابانية (طوكيو)، والتي كنت أحسبه – النص- لا يمكن تلحينه، وإذ بمروان يُلحنه خلال جلسة سهر مع الأصدقاء:
“صديقي العزيز
دعْ عنك الميكرفون،
والتحق بنا عند مفرق الحارة التي تطلُّ عليه
من نافذتك الصغيرة..
نحملُ كلَّ شيءٍ بإيدينا:
المحارم والأعلام والمناجل والفؤوس،
وجميع الشعارات التي وافقت عليها الدولة..
دعْ عنك الميكرفون،
وطلطل علينا بثوبك الأخضر الشفاف
عندما نصيرُ هناك..
وتأكد أننا لم ننس شيئاً،
حتى الشراويل حملناها بإيدينا،
وكدنا نفقدُ الصواب لولا أسفلت الطريق..”
وثمة نص آخر لرسام الكاريكاتير السوري عصام حسن، والذي يقول فيه:
“شوفي الحزن مشدودْ
متل الوتر بالعود
يا بنت قومي ارقصي
“اللي راح ما بيعود”

شوفي الحزن فكره
رَحْ تنتسى بكرا
يا بنت حاجي عَتَبْ
و خلّيكي مفتكره

شوفي الحزن موّالْ
شي انْقال وشي مَـ انقالْ
يا بنت حضني بِرِدْ
والله البرد قتّال

شوفي الحزن هَفْوه
جَمر وتحت صَفْوه
“يا بنت أخت القمر”
خالك أخد غَفْوه

شوفي الحزن عَ الباب
ناطر يجو الغيّاب
يا بنت إنتِ وأنا
قصّة وفصل بكتاب

شوفي الحزن سارح
جايب معو مبارح
يا بنت ضَوْ الفجر
خدّ السما جارح”
غير إنه في حفله الموسيقي الأخير (قصائد) في قصر الثقافة في اللاذقية – الذي هو غاية هذا المقال – فيذهب مروان في مشروعه الإبداعي أكثر صوب القصيدة الشعرية لإحلال الشعر بفنونه وأشكاله لتكتمل الأغنية التي باستطاعتها أن تُنمّي حواسنا، ولا تتركها كعشبٍ لمهبِّ القطيع..
هذا المشروع الذي أطلق عليه مروان (قصائد)، وأحيته أوركسترا البيت العربي في اللاذقية، يؤكد خلاله الموسيقي والشاعر مروان دريباتي أن البناء الموسيقي والغنائي الذي قام عليه هذا الحفل، كان على قصائد من أشعار السوريين: أدونيس، وصقر عليشي، وشعراء آخرين.. هو استمرارية لمشروع (قصائد) الذي كان قد انطلق به أول مرة على مسرح قصر الثقافة سنة 2019، والذي يقول عنه إنه “يأتي في إطار العمل على مشروع الأغنية المنتمية ثقافياً ومعرفياً وفنياً من خلال الكلمة واللحن لاستحضار الأغنية السورية..”.
والنص الذي بدأنا به هذا المقال للشاعر أدونيس قام بتلحينه مروان، ووزعه بيرج قسيس.. أما النص التالي، فهو للشاعر صقر عليشي، أيضاً لحنه مروان، وقام بتوزيعه بيرج قسيس.. وكانت الاحتفالية قد بدأت بـ(ومضات) مقطوعات موسيقية من تأليف دريباتي لتليها (أجمل ما تكون) قصائد لأدونيس، ومن ثمّ (قلت للريح، ومعنى على التل) شعر لـصقر عليشي، وهو لأول مرة يقفُ على خشبة المسرح مؤدياً بصوته هذه المرة، وليس كمؤلف موسيقي فقط..
“أنت قيدي
كما الاخضرار البديع
قيد الشجر..
أنت كنت كميناً لي من الياسمين
حينما صارت الروح
تحت مرمى شذاه..”
وأما دافعه لاعتماد الشعر في عملٍ موسيقي ضخم كهذا، فكان بسبب الحاجة التي أمست اليوم ضرورية للعودة للكلمة الشعرية الجميلة، وذلك بسبب هذه الأميّة الثقافية والأدبية بأهمية القصيدة في الأعمال الإبداعية.. ومن هنا يأتي مشروع (قصائد) لرفع مستوى الكلمة في الأغنية السورية، والاحتماء بالشعر السوري لتعميق الثقافة المنتمية.. وفكرة (قصائد)، اشتغل عليها مروان كموسيقي من خلال ذائقته الشعرية، ومن خلال واقع الأغنية العربية التي تعاني تردياً في الكلمة.. فالكلمة في الأغنية العربية اليوم لا توافق واقع المجتمع العربي، فحتى عندما يغنون عن الحب، هم ليسوا جديين في ذلك، بل هم أيضاً بعيدون عنه، وذلك بهذه المفردة المبتذلة في الكثير من الأحيان في الأغنية العربية، وللأسف تدعمها محطات فضائية، ومنابر إعلامية ومنصات فاحشة الثراء.. كلُّ ذلك في سبيل ترويج كل الابتذال في هذا الفن..

صحيحٌ أن مثل هذا الأمر من السطحية والسوقية أحياناً موجود في كلّ العالم، لكن الدائرة الإبداعية هناك غالباً مكتملة من النص إلى اللحن، والأداء، ومن المسرح الغنائي للموسيقا الصرفة الخالصة، والأوبرا وغيرها.. ومن ثمّ لن يؤثر مثل هذا (الابتذال) على تلك المنظومة الإبداعية المنيعة عن الاختراق.. وهو ما لم يتم حمايته في العالم العربي.. إذ لا تستطيع أن تتعاطف مع مريض بأغنية عن الحب، وإنما بما يخص مرضه، وهذا ما لم يوفره نص الأغنية العربية، فيما عالميَاً تمّ إيجاد معادلات لمثل هذه الاتجاهات..
الشعر العربي تطور كثيراً، وتلمّس كل مناحي الحياة التي كانت شواغله، غير إن مثل ذلك لم توفره النصوص التي كتبت للأغاني، ومن ثمّ أبعدت الأغنية عن النص الشعري الحقيقي.. وربما حصل الأمر من الالتباس في التجنيس، على سبيل المثال هناك الفرق شاسع بين الأغنية الشعبية، أو ما يسمونها هكذا، وبين الابتذال، وبتقدير مروان قد يكون سبب هذه الهوة، هي الثقافة الضحلة لمن يكتب الأغنية الشعبية، الذي غالباً لم يهتم بتنمية ثقافته بالاطلاع على القصيدة الشعرية، وعلى السينما والمسرح والتشكيل وغيرها من أنواع إبداعية..
اشتغل مروان هذا المشروع ضمن مناخات ذائقته الشعرية لعدد من الشعراء في المشهد الشعري السوري.. فهو – كما يذكر – مطلع جيد على تجربة أدونيس الشعرية، وقصيدته (أجمل ما تكون) المفعمة بالدفقات الإنسانية، وهي تخاطب الانسان أينما كان، فيما هو متابع تماماً لتجربة الشاعر صقر عليشي الذي يتغنى دائماً بالحب والجمال، ونصوصه تتشح بهذه الوجدانية الإنسانية العالية والتي يلامس من خلالها أبسط الأمور في المجتمع وحتى أعقدها.. كما اشتغل على قصائد لـ(الفيتوري)، وأسعد الجبوري من العراق، وعبد القادر صبري من اليمن، ودُمر حبيب من اللاذقية.. ولشعراء آخرين.. وكلُّ ذلك يأتي من مناخات هذه الذائقة الشعرية التي نمّاها على مدى سنوات من البحث والاطلاع..
ومن هنا وفي مشوار مشروع قصائد، يرى دريباتي، أنه مشوار طويل، وذلك لغزارة النتاج الشعري العربي، وبهذا العمل الشعري الموسيقي والغنائي، فإنّ أوركسترا البيت العربي في اللاذقية – تأسست سنة 2010م – تدخل لأول مرة حقل التأليف والتوزيع الموسيقي، بعد أن قدمت خلال السنوات الماضية الكثير من كلاسيكيات الموسيقا العربية والعالمية.
وعن كيفية شغله في اختيار النصوص الشعرية والتصدي لها موسيقياً يذكر دريباتي: الموسيقا هي الحصان، والفارس هي اللغة – القصيدة، ومهمتي – كما يقول – أن أصنع حصاناً من الموسيقا يقدّم (هارموني) لهذا الفارس بحيث يصل إلى فضاءٍ آخر، ويستسيغه المتلقي أينما كان بطريقةٍ ما، كما أبني الموسيقا اشتقاقاً من موسيقا النص نفسه..
وأسأله: هل يُمكن الفصل بين هذه الموسيقا التي يبدعها دريباتي بعيداً عن “فارس” للّغة؟.. يجيب: بكلّ تأكيد، ويمكن الاستماع إليها كمقطوعات موسيقية صرفة بعيداً عن النص الشعري، وذلك يعود لتلمسي موسيقا النص من الأساس كما ذكرت، فلكل نص موسيقاه بما فيها نصوص الثرثرة، وخلال تقديم المشروع الأخير الذي تمّ بالتعاون مع وزارة الثقافة – مديرية المسارح والموسيقا، قدمت ثلاث مقطوعات موسيقية كان فيها الكثير من روح موسيقا القصائد والتي جاءت جميعها بروحٍ واحدة، وهي تجربة عمرها قصير نسبياً، لكنها تبقى الخطوات لبداية الألف ميل..
وإذا كان الموسيقي دريباتي يدعو للاحتماء بالشعر لإنقاذ الأغنية من هذه الوحول التي غرقت فيها، فلأنّ أولى عجلاتها – الأغنية – التي غرزت بذلك الوحل من الكلمات، ومن ثم لا مجال لإخراجها بغير رافعة القصيدة.. وحكاية الاحتماء بالشعر لإنقاذ الأغنية الذي يدعو إليه دريباتي، هي حاجة ليست لرفع مستوى الأغنية وحسب، بل تبدو اليوم حاجة للاحتماء بالأدب على تنوع نتاجاته لإنقاذ مختلف الفنون البصرية، فالدراما التلفزيونية وبعد عشرات الانتكاسات التي أصابتها في المواسم الماضية ولاتزال؛ تبدو هي أيضاً بحاجة للاحتماء بالرواية.. وبالرواية السورية على وجه التحديد، فقد أوقعت الندرة في النص الذي يقع عليه عبء التنويع في الدراما السورية وكأنّ هذه الدراما تخرج من محترف واحد ميزته التماثل، وكما هو معروف، فإذا كانت الصورة هي الحامل في السينما، وعلى الخشبة يكون الحوار هو الحامل الأول للعرض المسرحي، فإن الحامل الأساسي في الدراما التلفزيونية هو النص..
وهنا نذكر؛ إنّ الانعطافة الأهم في تاريخ الدراما السورية، كانت مع (نهاية رجل شجاع) المأخوذ عن رواية لحنا مينة، فقد توفر لهذا العمل: سيناريست من الطراز الرفيع، ومخرج بقدرات إخراجية عالية، وأقصد حسن م يوسف، ونجدة أنزور، لكن مثل هذا الإنجاز لم يستمر طويلاً، ولم يكن المتلقي قد استطاب العيش عند أبواب الحارة، وبتقديري؛ إنّ الرواية تستطيع توفير نصوص جيدة للعمل الدرامي، فهي تمنح الدراما تنويعاً تفتقر إليه، ومن جهة أخرى تفتحها على آفاق جديدة هي متخلفة عنها.

بقي أن نشير إلى حضور موسيقا أمير البزق محمد عبد الكريم مقطوعة (موسيقا تانغو)، وقصيدة (لا تهب قلبك) للشاعر اليمني عبد القادر صبري، و(مولاي في الغرام) للشاعر العراقي أسعد الجبوري، و(أنت البلد) للفنان التشكيلي علي الشيخ.. وأخير مع قصيدة بالمحكي لعبد الله شاهين (عيونك حلوين يا عليا)، ومسك الختام مقطوعة موسيقية حملت اسم (الطريق إلى دغريون) لـمروان دريباتي، و(دغريون) هي ضيعة الشاعر والموسيقي مروان دريباتي في ريف اللاذقية.. ويتمنى الموسيقي والشاعر دريباتي، على زملائه الموسيقيين في سورية والعالم العربي أن “يتورطوا” موسيقياً وغنائياً بكلّ تنويعات الشعر من الشعر الصوفي العرفاني للنفري وابن الفارض والحلاج وصولاً للشعراء اليوم الذين يكتبون بلغة شعرية عالية المستوى..
وبنص الشاعر عبد الله شاهين، ومن ألحان مروان دريباتي وغنائه، وتوزيع بيرج قسيس، نختم هذا المقال:
” عيونك حلوين يا عليا عيونك حلوين
لو ضحكوا بهالليل عيونك قولي لمين
يمين الله يا عليا لحلف يمين
ضيعت شمالي بعيونك ضاع اليمين
هالليل الداشر ع كتافك يحكي شو صار
ما بين النهدة والنهدة يعمل مشوار
بيفيّق عمري من سكوتو بيشعّل نار
من يوم الشفتك وأنا ضايع بعيون حلوين”

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
إصابة مدنيين اثنين جراء عدوان إسرائيلي استهدف منطقة القصير بريف حمص (وثيقة وطن) تكرم الفائزين بجوائز مسابقة "هذه حكايتي" لعام 2024..  د. شعبان: هدفنا الوصول لحكايا الناس وأرشفة القصص بذاكرة تحمل وطناً بأكمله معلا يتفقد أعمال تنفيذ ملعب البانوراما في درعا ويقترح تأجيل الافتتاح بسبب تأثر المواد اللاصقة بالأمطار الوزير الخطيب: القانون رقم 30 يهدف إلى حماية بنية الاتصالات من التعديات الوزير صباغ: إمعان الاحتلال في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني يعبر عن سياسات إرهابية متجذرة لديه سورية تترأس اجتماع الدورة السادسة للمجلس العربي للسكان والتنمية في القاهرة الجلالي يبحث مع أعضاء المجلس الأعلى للرقابة المالية صعوبات العمل ووضع حد لأي تجاوزات قد تحدث طلاب المعهد الصناعي الأول بدمشق يركّبون منظومة الطاقة الشمسية لمديرية التعليم المهني والتقني أجواء الحسكة.. عجاج فأمطار الأضرار طفيفة والمؤسسات الصحية بجهوزية تامة لمعالجة تداعيات العجاج انطلاق فعاليات أيام الثقافة السورية في حلب بمعرض للكتاب يضم ألف عنوان