تحية من دمشق إلى فلسطين.. الفرقة السيمفونية الوطنية السورية في أمسيتها الأخيرة.. أعمال جسّدت البطولة والجمال

تشرين – إدريس مراد:
بعيداً عن الرسالة التي عملت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية على إيصالها في حفلها الأخير بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان من مسرح الدراما في دار الأوبرا السورية والتي مفادها بأن الموسيقى ليست أداة للتسلية، بل وسيلة لتقديم الجمال وتجسيد لحالات مختلفة منها الفرح والحزن، ولكن كل هذه الحالات تنصب بشكل أو آخر في خانة الجمال، والرؤية الإنسانية للمواضيع عموماً، وهكذا جاءت الأمسية التي سمّتها الفرقة “سيمفونية البطولة” كتحية إلى فلسطين وأهلها في ظل هذه الحرب البشعة التي يتعرض لها أهلنا من قبل العدو الصهيوني.

تطور مستمر
من جانب آخر، أثبتت الفرقة بأنها أهل للتطور خلال مسيرتها في السنوات الأخيرة سواء عبر استضافتها القامات الفنية، والعمل تحت قيادات مختلفة أو من خلال كثافة حفلاتها مع قائدها الأساسي وتقديمها أصعب الأعمال، ومنها العملان الضخمان في حفلها الأخير، حيث أدت افتتاحية (أوبرا قوة القدر) للمؤلف الإيطالي جوزبيه فيردي، وهي تمثل عملاً من أعمال الملحن المتأخرة التي أنهى كتابتها عام 1862 واعتبرت مرحلة انتقالية في التطور لأسلوب فيردي في تلحين الأوبرا ومقدماتها، حيث تجمع بين العناصر التقليدية وطرق الجديدة التي اتبعها هذا الموسيقي الكبير، وحقق من خلالها جميع الوسائل التعبيرية لديه في هذه الأوبرا “قوة القدر” عموماً، ناسجاً عملاً غنياً يجسد حالات مختلفة ومتناقضة، المأساة والكوميديا، العاطفة والكراهية، اللوحات متعددة الألوان، مشاهد المعسكر المبهجة، كلها تتحد مع الحبكة المحكمة إضافة إلى إبراز الرومانسية المتزنة للموسيقى، وتعد الافتتاحية التي اختارتها السيمفونية الوطنية من هذه الأوبرا جزءاً من الأعمال الغنية في المكتبة العالمية للموسيقى، وغالباً ما يتم عزفها كقطعة افتتاحية في الحفلات الموسيقية على شتى المسارح في المعمورة، وتحتل مكاناً بارزاً في الحفلات الموسيقية، وتبدأ بقوة وعنف من خلال لحن يرمز إلى قدر آتٍ، تؤديه آلة الترومبيت.

الحديث عن البطولة
كما قدمت السيمفونية الوطنية رائعة بيتهوفن، السيمفونية (رقم 3 مصنف 55 سلم مي بيمول ماجور) المعروف باسم الايرويكا “البطولة” والتي تعد فصلاً جديداً في تاريخ كتابة السيمفونية، لقد أراد بيتهوفن في هذه السيمفونية أن يتحدث عن البطولة التي خيل له أنه يراها في شخص نابليون، ولكنه عندما صدم بتنصيب نابليون نفسه إمبراطوراً، قرر أن يجعل منها عملاً يمجد البطولة بشكلها المطلق، لم يكتفِ بيتهوفن بإعطاء هذه السيمفونية أبعاداً ضخمة لم تعرف من قبل، بل أعطاها أيضاً مضموناً فكرياً أخلاقياً فاق مضمون جميع السيمفونيات الكلاسيكية السابقة، كما تتجلى فيها مرحلة جديدة من قدرات بيتهوفن على تنظيم مواده الموسيقية، وتشكيلها وإعطائها شكلاً قوياً نبيلاً، يفيض بالحياة والعظمة والروح.

الحركات المتنوعة
الحركة الأولى غنية بالمواضيع اللحنية، لدرجة تجعل من الصعب علينا التمييز بين المواضيع الرئيسية وآلاف المواضيع اللحنية الجزئية التي تزخر بها هذه الحركة التي تنتهي بخاتمة ضخمة تترك انطباعاً لا يُمحى، والحركة الثانية التي احتوت المارش الجنائزي الشهير ويضم فوغ وقوراً للغاية يتخلله لحن ينفذه الكمان، فيبعث أشعة مؤقتة من الأمل في ذلك المشهد الحزين، لكن سرعان ما تتلاشى ويعود المارش إلى جوه الحزين الجنائزي.
أما السكيرتزو بأقسامه الوترية الغامضة وانفجاره المفاجئ فهو موسيقى سيمفونية جديدة بكل ما معناها من الكلمة، وبداية سلسلة طويلة من الحركات البيتهوفنية التي وصفت بالشيطانية لعمقها وتمكنها، أما الخاتمة فهي مزيج من قالب الفوغ وقالب التنويعات، ويظهر فيها الموضوع اللحني الذي ظهر سابقاً في باليه بروميثيوس، وهو موضوع محبب للغاية عند بيتهوفن، ربما لأنه أراد أن يذكر بالأسطورة البروميثوسية، وبتقديم شعلة النار إلى الجنس البشري، ولما يمتلكه هذا العمل من قوة الأفكار والأسلوب والسمو الروحي والشاعرية قد أصبحت إحدى أهم إبداعات بيتهوفن العظيمة على الإطلاق.. عموماً قطعت السيمفونية الثالثة كل صلة لها بطريقة التأليف التي اتبعها كل من هايدن وموتزارت، ولقد نحا فيها بيتهوفن منحى جديداً بعد أن كتب في مذكراته: “إنني غير معجب بالإنتاج الذي أطلعته حتى الآن..، سأترك الماضي المظلم ورائي، لأحلق في جو ساطع بكرٍ بعيد…”، وهكذا فإن الابتكار التعبيري لألوان الآلات في هذه السيمفونية، والإقدام الذي لا مثيل له على استعمال الهارموني والتنامي الهائل للنسب الموسيقية، كلها تجعل من هذه السيمفونية ثورة في عصرها.

الحضور الذواق للإبداع
أخيراً، ما يلفت النظر في الحفلات التي تقدمها الفرقة السيمفونية الوطنية هو الإقبال الشديد من الجمهور، وحرصه على متابعة أعمال الفرقة وتلك العلاقة الوثيقة التي استطاعت أن تخلقها الفرقة بينها وبين الجمهور المتذوق للأعمال السيمفونية الكلاسيكية، وهذه الظاهرة تدعو للتفاؤل بمستقبل موسيقانا وتساهم في رفع مستوى حياتنا الثقافية ويغني عالمنا الروحي والإنساني والجمالي، ولا سيما الحضور الذي تابع الأمسية الأخيرة رغم الحزن الذي كان يلف المقطوعات ولكنها جسدت الجمال أيضاً بكل تأكيد واقتدار.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
ناقش مذكرة تتضمن توجهات السياسة الاقتصادية للمرحلة المقبلة.. مجلس الوزراء يوافق على إحداث شعبة الانضباط المدرسي ضمن المعاهد الرياضية "ملزمة التعيين" وزارة الدفاع: قواتنا المسلحة تستهدف آليات وعربات للإرهابيين وتدمرها وتقضي على من فيها باتجاه ريف إدلب الجنوبي مشاركة سورية في البطولة العالمية للمناظرات المدرسية بصربيا القاضي مراد: إعادة الانتخابات في عدد من المراكز في درعا وحماة واللاذقية «لوجود مخالفات» غموض مشبوه يشحن الأميركيين بمزيد من الغضب والتشكيك والاتهامات.. هل بات ترامب أقرب إلى البيت الأبيض أم إن الأيام المقبلة سيكون لها قول آخر؟ حملة تموينية لضبط إنتاج الخبز في الحسكة.. المؤسسات المعنية في الحسكة تنتفض بوجه الأفران العامة والخاصة منحة جيولوجية ومسار تصاعدي.. بوادر لانتقال صناعة الأحجار الكريمة من شرق آسيا إلى دول الخليج «الصحة» تطلق الأحد القادم حملة متابعة الأطفال المتسرّبين وتعزيز اللقاح الروتيني دمّر الأجور تماماً.. التضخم لص صامت يسلب عيش حياة كريمة لأولئك الذين لم تواكب رواتبهم هذه الارتفاعات إرساء القواعد لنظام اقتصادي يهدف إلى تحقيق الحرية الاقتصادية.. أكاديمي يشجع على العودة نحو «اقتصاد السوق الاجتماعي» لتحقيق التوازن بين البعد الاجتماعي والاقتصادي