الفرقة السيمفونية الوطنية السورية تحيي شهداء غزة
تشرين- بديع منير صنيج:
أبرز الملصق الدعائي لحفل الفرقة السيمفونية الوطنية السورية اسم فلسطين باللغة الإنكليزية متقاطعاً بحروفه مع أسماء كل من فيردي وبيتهوفن واختصار اسم الفرقة، بحيث شكَّلت تلك الأسماء الأربعة بألوانها العلم الفلسطيني، كل ذلك فتح باب التساؤل عن الكيفية التي سيتم فيها تسخير الموسيقى الكلاسيكية للتضامن مع فلسطين وقضية شعبها في مواجهة جرائم الاحتلال، ولم يخفف من وهج الأسئلة وسم “سيمفونية البطولة” الذي تضمنه الملصق.
لكن ما إن اجتمع أعضاء الفرقة السيمفونية على خشبة مسرح الدراما في دار أوبرا بدمشق حتى قال المايسترو ميساك باغبودريان: عشنا في سورية 12 عاماً من الحرب ومررنا خلالها بأزمات كبيرة، خسرنا كثيرين من الناس الأعزاء على قلوبنا، وفي أصعب اللحظات كنا نقدم واجبنا المهني تجاه المجتمع والوطن، عبّرنا عن مشاعرنا وقُلْنا كلمتنا بموسيقانا.. وأضاف: اليوم كلنا نعيش أزمة جديدة إنسانية وقومية نتيجة ما يحصل في بلدنا الحبيبة فلسطين، نحن نعبّر بموسيقانا وأنتم بمشاركتكم ستكونون معنا، لذا فإن هذه الأمسية ستكون تحية لفلسطين ولأرواح الأطفال والنساء وكل الشهداء في سورية وفلسطين.
وبعد الوقوف دقيقة صمت بدأت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية عزف افتتاحية أوبرا قوة القدر للموسيقي الإيطالي جوزيبه فيردي، تلك المقطوعة المتميزة بقوَّتها وبلحنها الذي يرمز إلى القدر عبر آلة الترومبيت ومرافقة بقية آلات النفخ الخشبية والطبول ومشاركة الوتريات. تلك الافتتاحية الموسيقية أعادتنا إلى مغزى الأوبرا التي كتبها الإسباني أنخيل سافدرا وتناقش فكرة تحدي الإنسان لمصيره، وإمكاناته في اختيار حياة تناسب تطلعاته ومشاعره، ومدى قدرته على النجاح في ظل ما يحيط به من ظروف محبطة وأسباب تمنعه من الوصول إلى مبتغاه، وكأننا مع عازفي الفرقة السيمفونية نحيل تلك التساؤلات إلى الفلسطينيين الذين يُسطِّرون يوماً بعد يوم ملاحم قلّ نظيرها في الصمود، ومقارعة الاحتلال الإسرائيلي بكل همجيته وعنجهيته.
وبما تحويه تلك الافتتاحية من فيض في تناغم الألحان التي تؤديها معظم آلات الفرقة، إلى جانب الأداءات الفردية العذبة، أحسسنا بأن هذه البداية تقارب الواقع الفلسطيني، وأنه مهما قست الظروف فسينتهي مثل نهاية أوبرا فيردي بحتمية انتصار الحقيقة والحب معاً.
المقطوعة الثانية التي قدمتها الفرقة السيمفونية الوطنية السورية كانت السيمفونية الثالثة للموسيقي الألماني لودفيغ فان بيتهوفن، والتي يُطلق عليها البعض تسمية “سيمفونية البطولة”، وفيها يؤكد صاحب أنشودة الفرح على صورته كرجل يعشق الحرية ويرفض الطغيان واضطهاد الإنسان أينما كان، إذ رفض إهداءها إلى نابليون إثر تنصيب الأخير نفسه إمبراطوراً.
وبأداء هذه السيمفونية بحركاتها الأربع، والذي استمر لساعة من الزمن، استطاع العازفون السوريون أن يواكبوا أمزجتها المختلفة وسرعاتها المتنوعة، والأهم رومانسيتها المميزة ودراميتها المفعمة بالمشاهد، فمن البداية الحيوية والمليئة بالطاقة، إلى الحركة الثانية الشهيرة “مارش جنائزي”، حيث تصبح الأجواء أكثر هدوءاً وغموضاً مع تأكيد على روحانية العزف.
لتنتقل بعدها الفرقة إلى الحركة الثالثة بتباينات سرعتها وحيويتها، ولتشكل صلة وصل بين ثاني الحركات بحزنها الشفيف، مع عودة نوعاً ما إلى أولى الحركات كتأكيد على أن الحزن لن يدوم طويلاً، لتأتي حركة الختام بمشهد احتفالي، تكثر فيه الإيقاعات وتعلو أصوات الآلات ضمن غنائية رهيفة وكأننا أمام موكب نصر مهيب.
وفي مقاربة ذلك مع ما يحصل في غزة يمكن القول إنه مهما بلغ عمق الجراح، ومهما استطال الألم والحزن، ومهما كثرت التضحيات، إلا أن سيمفونية البطولة التي يرسمها الفلسطينيون بمقاومتهم لا بد أن تنتهي بانتصارهم وإحقاقهم الحق الذي سينهي ثمانية عقود من الاعتداءات المستمرة التي يقوم بها الكيان الإسرائيلي.
وأوضح المايسترو ميساك باغبودريان لـ(تشرين) أنه تم إلغاء برنامج موسيقي كانت تشتغل عليه الفرقة السيمفونية الوطنية السورية لأنه لم يعد مناسباً بسبب ما تعيشه غزة، مبيناً أنه بعد نقاش مديد، هل من الصحيح إقامة حفل الآن أم من الواجب الاكتفاء بالصمت الموسيقي تجاه ما يدور في الأراضي الفلسطينية؟ تم الاتفاق على استبدال برنامج الفرقة بما يناسب الحدث الفلسطيني.. وقال باغبودريان: بعد 12 عاماً من الحرب على سورية استمرينا خلالها بنشر الموسيقى، من منطلق إيماننا بأن الموسيقى ضرورة للمجتمع وخاصة في الأزمات، لذلك أحببنا من خلال هذه الأمسية أن نقول كلمتنا كموسيقيين سوريين مرتبطين قلباً وقالباً بالقضية الفلسطينية، نحزن على الدمار والموت، ونفرح بأخبار البطولة والشجاعة، ونفكر بمقدار الإرادة الكافية للانتصار.
وأضاف: وفقاً لذلك فإن سيمفونية البطولة هي أقل ما يمكن أن نقدمه لفلسطين وشهدائها تحيةً لأرواحهم، فهي تصوير لمشاعرنا تجاه كل ما يحصل في غزة، أحببنا أن نترجمه بالموسيقى التي نعزفها، ونقول كلمتنا بأن فلسطين هي المحور الأساسي الذي يقوم عليه عملنا في الفرقة السيمفونية الوطنية السورية الآن.