ملف «تشرين».. غزة تتقدم وتعيد رسم معادلات القوة في صراع الممرات التجارية.. والتنبؤ بالمآلات والنتائج ليس في متناول أحد
تشرين – بارعة جمعة:
مُخطئٌ من يعتقد أن صراع التكتلات العسكرية لايزال ضمن حدود منطقة ما.. أو أن انحساره ضمن موقع محدد هو مجرد استحواذ على المبادرة، كما أن القراءة المتأنية للصراع الاقتصادي المحتدم بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من طرف، وبين الصين ومن معها، يُثبت انحراف البوصلة لاتجاهات أخرى أكثر توغلاً في جغرافية المنطقة، التي تُعد ممراً إجبارياً لتحقيق كل الخطط القديمة منها والجديدة، ولعلّ الهجوم الإسرائيلي الشرس المستمر على قطاع غزة منذ أكثر من شهر يؤكد حتمية الصراع على امتلاك أكثر المناطق قدرة على تنفيذ هذه الخطط، والتي تهدد المنطقة العربية برُمتها، إلا أن السؤال اليوم والذي بات يفرض نفسه أمام هذه التطورات: ما هي أبعاد المخطط الاقتصادي الصهيو- أمريكي في المنطقة، وما هو حال منطقتنا التي وقعت ضحية ممرين اقتصاديين هما نافذة الدول إلى العالم ؟
التوجه شرقاً
تعزيز النفوذ والاستحواذ على ساحات اقتصادية مهمة كانت أبرز العناوين التي قدمتها الصين ضمن خطتها الاقتصادية في المنطقة العربية، بما يتيح لها تسويق منتجاتها بشكل سريع إضافة لربط اقتصادات الدول الواقعة على مشروع «الحزام والطريق» بالاقتصاد الصيني على شكل قروض واستثمارات صينية بالمنطقة، وفق قراءة الخبير العسكري وفيق نصور لموجبات قيام الصراع الحالي على غزة، مشيراً إلى دور إيران الاقتصادي والجغرافي كممر إلى مياه الخليج العربي، بالتالي إلى بحار النفط والطاقة في الخليج مروراً إلى شواطئ المتوسط الشرقية في موانئ اللاذقية وطرطوس وبيروت، وعبر قناة السويس الطريق الاقتصادي المهم.
الولايات المتحدة الأمريكية ترى في هذا النمو الاقتصادي والامتداد الصيني في حقول راعي البقر الأمريكي- وفق توصيف نصور- تحدياً خطيراً لها، ومن هنا كان قيام قمة العشرين التي انعقدت في العاصمة الهندية نيودلهي- في أيلول الماضي- وبغياب كل من الصين وروسيا، هذه القمة شكلت المخاض للمشروع الأمريكي المُنافس للمشروع الصيني «الحزام والطريق» حيث أطلق الرئيس الأمريكي جو بايدن وبحماس شديد مشروعه المُسمى الممر التجاري الجديد بين الهند والخليج العربي وأوروبا عبر البحر من الهند إلى الموانئ العربية في الإمارات العربية المتحدة ومن ثم براً إلى السعودية، التي تعد برأي الخبير نصور قوة اقتصادية فاعلة في هذا المشروع، من ثم إلى الأردن والكيان الإسرائيلي، إلى ميناء حيفا وبعدها بحراً إلى اليونان وأوروبا.
نصور: تعويم الكيان الصهيوني سياسياً وفرضه بالتثقيل الاقتصادي هدف أميركي
يتوازى مع هدف احتواء الصين في المنطقة عبر إسقاط مشروعها العالمي الأهم «الحزام والطريق»
المشروع الذي تم طرحه من قبل أمريكا لاقى حماساً منقطع النظير من الكونغرس الأمريكي نفسه، ولم يُخفِ دهشة وفرحة النائب الديمقراطي فرانك بالون بوصفه الممر بالحدث الاستثنائي الذي سيربط الطرق التجارية بين أوروبا والشرق الأوسط وجنوب آسيا، كل ذلك سيربط وفق قراءة الخبير نصور أكثر من عشرين دولة وسيجمع الموانئ الاقتصادية التجارية في قارتين.
ولادة جديدة
يمر العالم اليوم بمرحلة مخاض حقيقي، أساسه صراع الأقطاب والمحاور، عضده اقتصادي وأدواته متعددة «أحلاف وتكتلات ومجموعات بأسماء مختلفة» ويصل الأمر لأن يتحول هذا الصراع إلى حروب، محدودة ونزاعات عسكرية عديدة متفرقة بعيدة عن حدود وأجواء دول المحور الغربي، وفق رؤية الدكتور في علم الاقتصاد جامعة دمشق عابد فضلية للواقع الحالي.
وما يحدث اليوم ليس منفصلاً عن تبعات التناقضات التناحرية التي يعيشها النظام الرأسمالي الذي يعاني ويعاني معه العالم من إرهاصات أزمة ركود اقتصادي، تتفاقم شيئاً فشيئاً باتجاه حالة «أزمة» مشابهة بصورة كبيرة لأزمة الكساد العالمي عام ١٩٢٩ التي عانت منها آنذاك دول العالم أجمع، ولم تنتهِ آثارها الموجعة إلا مع الحرب العالمية الثانية، وفق فضلية.
ما يحصل في منطقتنا هو – تحصيل حاصل – لتمهيد الأرضية المناسبة للمشروعات المخطط تنفيذها خلال السنوات والعقود القادمة برأي فضلية، ومنها «مبادرة الحزام والطريق» الصينية ومشروع الممر التجاري الدولي الذي سينطلق من الهند مروراً بالخليج العربي والسعودية ثم الأردن ثم فلسطين المحتلة، لينفذ إلى البحر عبر ميناء حيفا نحو القارة الأوروبية، وبالتالي فإن الصراع بين هذين المشروعين يتجسد بالصراع العسكري والسياسي الذي يجتاح المنطقة، ولا يمكن لأحد أن يتوقع إلى أين سيُفضي هذا الصراع جغرافياً وعسكرياً.
ويضيف فضلية: جغرافية دول الشرق الأوسط قابلة للتغيير ودولها مُعرضة لخيارات الاصطفاف والتموضع أو إعادة الاصطفاف والتموضع بحسب موازين القوى الخارجية التي تتحرك اليوم مع بعضها أو ضد بعضها علانية وبصورة مباشرة أو غير مباشرة، لذا فإن دول المنطقة هي أرض الصراع وأحد أهم أهدافه لتمرير المشروعات الدولية التي تخدم مصالح الكبار وتتحقق في ظل ذلك بعض مصالح الصغار، وخاصة منها تلك الدول التي ستكون أراضيها وموانئها ممراً لطرق التجارة الدولية.
هواجس مشروعة
لم تشفع تحليلات وتأويلات المحللين والخبراء الاقتصاديين بعدم منافسة المشروع الصيني للممر الهندي لمنع اندلاع صراعات في المنطقة، فالهواجس الداخلية بهذا الشأن كانت أقوى برأي نصور، حيث من الخطأ بمكان ما الاستناد إلى حسن النية الأمريكية تجاه منافستها الصين، التي لم تكن يوماً في وجدان السياسة الأمريكية، ليأتي مشروع الممر الهندي بمثابة احتواء للمشروع الصيني مما يعزز ويقوي الدولار الأمريكي القائد الوحيد للمراكب الاقتصادية عبر الممر، قاطعاً الطريق أمام منافسة القادم الذي ننتظر ولادته وهو عملة «بريكس».
هذا الممر سيعزز النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، الذي بدوره سيفرض تقديم الكيان الإسرائيلي كشريك اقتصادي فعّال، ويفتح الأبواب الموصدة في وجهه برأي نصور، خاصة الأبواب الخليجية الواسعة والنفطية التي تبحث عنها وتخطط لها حكومة العدو، ضمن مشروعها المعروف بقناة «بن غوريون» المائية كحالة التفاف على قناة السويس المصرية.
د. فضلية: ما يحصل في منطقتنا نتيجة حتمية لعمليات تمهيد الأرض لتنفيذ المشروعات القديمة – الجديدة ودول المنطقة معرضة لخيارات الاصطفاف وإعادة التموضع حسب موازين القوى الخارجية
إن مشروع الممر المائي الهندي، وبالرغم من كل التحديات الفنية والجغرافية التي يواجهها، يبدأ بالمسير البحري بين الهند وشواطئ الخليج العربي، وشواطئ الإمارات، وهناك سيتم تفريغ السفن التجارية الضخمة ومن ثم إعادة تحميل البضائع براً بالقطارات عبر الطريق البري إلى السعودية، تفريغ وتحميل، ومن ثم إلى ميناء حيفا في فلسطين المحتلة، لتعود وتفرغ البضائع ويتم تحميلها عبر السفن إلى الموانئ اليونانية وإلى أوروبا، كل ذلك سيشكل برأي الخبير العسكري وفيق نصور تحديات كبيرة لجهة التكاليف الزائدة.
استهداف خطير
تعويم الكيان الصهيوني سياسياً واقتصادياً وفرضه بالتثقيل الاقتصادي الشامل هو هدف المشروع، كما أن جميع دول محور المقاومة تقع ضمن منطقة الاستهداف بهذا المشروع وخاصة إيران و«دول الطوق» لفلسطين المحتلة، وفق قراءة الخبير العسكري وفيق نصور لأبعاد المشروع، باعتبار أن هذا الممر سيؤدي إلى اقفار طريق الحرير القديم والمعروف، وتحييد وحصار إيران عن المنطقة والإقليم، وفي ذلك مصلحة إسرائيلية صرفة، إضافة لمحاولات سحب الهند من الذهنية الصينية ولجم السعودية ودول الخليج النفطية من الالتحاق بالركب الصيني أيضاً، كما سيعزز هذا الممر الوجود الأمريكي غير الشرعي في سورية والعراق والأردن، كما سيؤدي إلى الإضرار بمصر، عبر تحويل نسب كبيرة من الرحلات التجارية عبر هذا الممر، ناهيك عن المشروع الصهيوني- قناة بن غوريون- التي تشكل عدواناً اقتصادياً على دولة مصر العربية.
ولهذا السبب، تم منذ حوالي سنتين تدمير مرفأ بيروت، وللسبب ذاته يريد الكيان الصهيوني إبعاد الفلسطينيين عن غزة وعن آبار الغاز وعن ممرات التجارة العالمية برأي الدكتور عابد فضلية، كونها تحضير لميناء حيفا ليكون بديلاً عن المرافئ العربية المجاورة كلها.
عدا عن ذلك، أمام الدول التي ستستفيد جداً من الممر الهندي هناك دول أخرى في المنطقة ستستفيد أيضاً من طريق الحرير الصيني.. أما الدول الأخرى غير الشريكة في هذين المشروعين فستكون فائدتها أقل وغير مباشرة، شرط أن تعمل على تطوير تشريعاتها التجارية وبناها ومرافقها التحتية، بما فيها وعلى رأسها مرافق النقل والشحن والمناطق الحرة وتشريعات الترانزيت والعبور الاقتصادي، الذي يأخذ في سيرورته شكل صراعات عسكرية محدودة بعيداً عن حدود دول المعسكر الغربي وبدون تحريض أو افتعال.
استعادة السيطرة
في القراءة السياسية لواقع الأمور بعد مشروع الحزام والطريق وعمق تأثيره على مصالح أمريكا في منطقة الشرق الأوسط، يرى المحلل السياسي محمد هويدي من الرياض بأن فكرة مشروع الممر الهندي الأمريكي جاءت لإجهاض وضرب المشروع الصيني، فالصراع اليوم جيو- اقتصادي لاسيما بعد فشل أمريكا بالحفاظ على نفوذها خلال السنوات الماضية، لتصطدم بالدور الصيني الذي تنامى بالمنطقة، بعد الاتفاقية الموقعة بين إيران والسعودية برعاية صينية، إضافة للشراكة الصينية الإيرانية التي تم توقيعها لمدة 25 عاماً، والقمم التي تمت برعاية الصين أيضاً، فغدت أكبر شريك اقتصادي للدول ككل، وما تقوم به الولايات المتحدة اليوم من عمليات تحشيد غايته إضعاف ومواجهة النفوذ الصيني الذي لقي قبولاً كبيراً من الدول نفسها برأي هويدي، لاحترام الصين خصوصية كل دولة بعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهنا كانت العودة الأمريكية لبوتقة الصراع لخلط الأوراق في المنطقة.
هويدي: الصراع اليوم جيو- اقتصادي ومنطقتنا في القلب منه
وسيكون التأثير كبيراً على دولها وعلى سورية بصفتها آخر محطة للمحور الشرقي
لا أحد يُنكر حقيقة أن منطقتنا منطقة صراع ونفوذ تحديداً بهذا التوقيت وفق قراءة هويدي لتطور الأحداث، التي شملت تغييرات في النظام الدولي الذي سيتحول لمتعدد الأقطاب، أمام أهمية منطقتنا التي تعد نقطة عبور لمشاريع عدة.
اتساع الدائرة
التأثير سيكون كبيراً على دول المنطقة، وعلى سورية بصفتها قاعدة مركزية أساسية للصين وآخر موطئ قدم للمحور الشرقي، ولا يمكن التضحية بها، وهو ما ركزت عليه زيارة الرئيس بشار الأسد للصين مؤخراً، بالتأكيد على عمق العلاقات بين البلدين، مع استعداد الصين لتهيئة البنية التحتية والاستثمار فيها، إلا أنه وبالرغم من كل ذلك فإن المشروع الصيني يُحارب من قبل أمريكا وحلف «ناتو»، الذي لا زال في حالة صدام مع روسيا في أوكرانيا، ومع الصين في تايوان، بالتالي سيكون لذلك ارتداداته برأي هويدي، بانهيار دول وهو أمر ليس لصالح أحد، كما أن إنشاء كانتونات وأقاليم جديدة من قبل أمريكا ليست من صالح الدول العربية ولا إيران ولا تركيا.
هي سياسة الأمريكي في المنطقة، لكنه لن ينجح برأي هويدي، فمحور المقاومة قوة فاعلة وجزء من المحور الشرقي، كما أن لديه تشابك مصالح مع محور الشرق وأي استهداف لإيران أو سورية بمثابة استهداف للمحور الشرقي، ومحاولة لإفشال محاولات الخروج من عنق الزجاجة نحو نظام عالمي جديد يرسخ حالة جديدة من إسقاط أمريكا عن هرمية النظام الدولي وقيادتها للعالم، فالمحور بالرغم من كل شيء قادر، والتصعيد في منطقة الجزيرة والعراق وجنوب لبنان ما هو إلا رسائل للأمريكي وللغربي بآن معاً.
بينما لا زال الصراع في غزة والتحشيدات العسكرية الغربية شرق المتوسط واستعداد المحور لكافة الخيارات يضع يد محور المقاومة على الزناد، وأمام كل ذلك لا تزال التقارير تُشير إلى حالة من التصعيد برأي هويدي، فالمنطقة على صفيح ساخن ولا أحد يملك الرغبة بتفجير الأوضاع، حتى الأمريكي نفسه، إلا أنه في الوقت ذاته لا يرغب باستقرار المنطقة لأن ذلك لا يخدم مصالحه، القائمة على نهج إشعال الصراعات بأي منطقة لا يمكنه الاستفادة منها، وحتى الآن لا أحد يعلم إلى أين تتجه دفة الصراع، لكن ما هو مؤكد هو أن الجميع ذاهب إلى حافة الهاوية.
اقرأ أيضاً: