بغياب الرؤية السياسية لـ«إسرائيل» تغدو الإجابة ملحّة عن سؤال: “ماذا بعد؟”.. إجابة مفتوحة تسطّرها إرادة المقاومة

تشرين: يسرى المصري:
كبيرة هي المعجزة لكنها في سرها تغدو معجزة أكبر.. إنها فلسطين بشرطها الإنساني وشرطها الكفاحي.. وفي حين يتواصل العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لليوم الـ39، ويتعرض شمال القطاع لأحزمة نارية من الطيران الحربي والقصف المدفعي، يعلن الاحتلال الإسرائيلي عن مقتل جنديين وإصابة 4 آخرين خلال المعارك الدائرة مع المقاومة الفلسطينية، ما يرفع عدد قتلاه منذ بدء العملية البرية إلى 47 قتيلاً.
وتكبر المقاومة وتصير كحكاية الجبّار الذي ينقل في راحتيه مدينة ضخمة من مكانها.. تعلن المقاومة (كتائب عز الدين القسام) عن استهداف وتدمير 12 آلية عسكرية إسرائيلية بقذائف “الياسين 105″، بينها ناقلة جند و7 دبابات غرب غزة وشمال بيت حانون، ما يجعل المعركة مختلفة تماماً، لما لها من تداعيات وتأثيرات إقليمية ودولية واسعة، حيث عرّت الازدواجية لدى الإنسانية الأوروبية الأميركية التي كانت مجرد خديعة لم يكتب لها الاستمرار أكثر من ذلك.
حتى اليوم .. لا تزال الجريمة مستمرة في بث حي ومباشر، تستهدف الأبرياء الفلسطينيين في عصر التكنولوجيا والثورة الإعلامية ووسائل التواصل، وبالمقارنة بين إنسانية أميركا وأوروبا في حرب أوكرانيا وإنسانيتها المعدومة في حرب غزة تمت تعرية الحقيقة بسهولة حتى رئيس أوكرانيا نفسه الذي نال تعاطف العرب لم يخفِ صهيونيته وانحيازه الكامل للمحتل بتصريحاته العنصرية واللا إنسانية.
وفشلت كل الحجج الواهية، بداية من “دعشنة” المقاومة إلى حق الدفاع والرد، وأصبح واضحاً للجميع أن تلك الحرب يتم التحكم فيها بعقلية وعقيدة دينية عنصرية ومتطرفة مرتكزة على فكر استعماري صهيوني يكنّ كل الكراهية للعرب ويعتبرهم حيوانات بشرية.
هذه العقلية بلا أي أفق سياسي وهو ما يجر الولايات المتحدة الأميركية لخسائر لا تُحمد عقباها، وهو ما تدركه الإدارة في واشنطن اليوم، حيث أدركت تلك العقلية أنها تجر الجميع إلى الهاوية.
لعل مقولة منظّر الحرب الشهير كارل فون كلاوزفيتز “الحرب هي مجرد استمرار للسياسة بطرق أخرى” هي ما يفسر فشل كل المبادرات السياسية التي جرت وتجري منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، إثر هجوم السابع من تشرين الأول الماضي، في الوصول حتى إلى بيان مشترك ذي معنى، فضلاً عن التوصل إلى رؤية سياسية، أو لعل هذه المقولة تفسر بالأحرى نجاح التواصلات الدبلوماسية في عدم الوصول إلى أي مخرج سياسي ذي قيمة.

غزة أذهلت العالم بثباتها وصمودها رغم الإبادة الجماعية والقصف المجنون

ومسح أحياء بكاملها من خريطة العمران

فمع وقع الهجوم وهول المصاب الذي نال إسرائيل في السابع من تشرين الأول، صعدت «الحكومة الإسرائيلية» إلى الشجرة معلنةً الحرب على حماس والقطاع المحاصر، مهددةً بأنه لا عودة حتى اجتثاث حماس والقضاء عليها، وبهذا رفعت الأقلام واستلت “السيوف الحديدية”، وفق التسمية «الإسرائيلية» لعملياتها في قطاع غزة. ورغم واقع الهزيمة العسكرية المؤلمة ورغم ما نشهده من تغيير في التصريحات والمواقف، فإن الخطاب الإعلامي الرديء لأميركا وأوروبا وإسرائيل ظل كما هو، إذ يتحدث عن مستقبل غزة من دون حماس ويتشاورون فيما بينهم عن تشكيل قوة دولية تدير القطاع مع وجود قوات عربية ضمن تلك القوات، غير أن الدول العربية رغم موقفها المتخاذل لم توافق على المشاركة في تلك القوات ولن تستطيع ذلك.
ربما لم تستوعب الإدارة الأميركية بشكل كامل حتى الآن ميدانياً وعسكرياً حجم الهزيمة ولا تبعاتها ولا متغيراتها، ولا ترغب بالاعتراف بالفشل والهزيمة، وتحاول دعم استمرار الاحتلال في نفس مسار ارتكاب فظائع وجرائم حرب ضد الإنسانية في غزة من أجل ترميم ما تم سحقه عسكرياً واستخباراتيا، لكنها تعلم أنها إذا استمرت ربما ستفشل وتُهزم، وسوف يكون الاحتلال حينها مجبراً على التراجع والاعتراف بالهزيمة وقبول وقف إطلاق النار.
طالت الحرب أم قصرت، فإن المقاومة صنعت المستحيل، وحققت نجاحات كبيرة ومعجزات عسكرية غير مسبوقة وتفوقاً ميدانياً كبيراً على مستوى التخطيط العسكري والتفوق الاستخباراتي والمعلوماتي واحترافية الخطاب الإعلامي العسكري الرائع، الذي جذب انتباه الملايين في العالم، وانقلبت معه كل المفاهيم والقيم والأخلاق والمبادئ الجامعة التي يرتضيها ويقبلها العالم الحر، وأصبحت القضية الفلسطينية حاضرة في كل المنتديات وكل التجمعات الدولية.
ومن أهم أسباب نجاحات المقاومة، الحاضنة الشعبية للقضية الفلسطينية التي أذهلت العالم بثباتها وصمودها، رغم الإبادة الجماعية والقصف المجنون ومسح أحياء بكاملها من خريطة العمران في غزة، حيث تجتمع قوة دولية وإقليمية عسكرية في العالم، كما اجتمع أغلب أوروبا وأميركا وإسرائيل لحرب بقعة جغرافية صغيرة، ستصبح رمزاً لأصغر مساحة جغرافية في العالم تهزم أقوى جيوش واستخبارات العالم.

• تم دفن أكثر من 170 جثة في مقبرة جماعية في مشفى الشفاء بغزة ولم يتحرك الضمير الإنساني في أميركا وأوروبا.
لقد أثبتت تلك المعركة أن الشعوب وأصحاب الأرض ينتصرون مهما تعاظمت قدرات المحتل العسكرية والاستخباراتية، فالأرض تعرف أصحابها وتحارب المحتل معهم! على مدار أيام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة اتجهت الأنظار صوب مجمع الشفاء الطبي بقطاع غزة، بعدما تحول إلى هدف حربي لقوات الاحتلال تسعى إلى تدميره بشتى السبل، فتقصف أجزاءً منه جواً وتطوقه براً وتشوه سمعته إعلامياً، من دون أي مراعاة لتعريض حياة الآلاف من الجرحى والمصابين للخطر.
وفي ضوء قرع طبول الحرب ورفع أقلام السياسة لم تنجح زيارتا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في التوصل إلى أي نتيجة سياسية، بل يمكن القول إن الزيارتين لم تهدفا إلا إلى تكميم السياسة وإعطاء الكلمة للميدان، بل زج جميع الأطراف في الحرب إن أمكن. فالجولة الأولى التي قام بها وزير الخارجية الأميركي بعد أيام من اندلاع حرب السابع من تشرين الأول كانت بمنزلة تعميم أميركي لعواصم المنطقة، للرخصة المطلقة التي منحتها واشنطن لـ«تل أبيب»، مع محاولة الضغط على الدول العربية، وعلى رأسها مصر، للقبول بتهجير الفلسطينيين تجاه شمال سيناء. أما الجولة الثانية التي قام بها بلينكن فلم تأتِ بأي جديد، سوى التأكيد الأميركي على ضرورة عدم وقف إطلاق النار وإعطاء المزيد من الوقت لآلة القتل والدمار الإسرائيلية.
وكثف الاحتلال خلال الـ72 ساعة الأخيرة غاراته على المشفى الذي بات الملاذ الأخير أمام الجرحى والمصابين بعد استهداف مستشفيات القطاع كلها، حيث أصيب المشفى بأضرار جسيمة أخرجت معظم أقسامه عن العمل، فضلاً عن نفاد الوقود وانقطاع التيار الكهربائي ما يعني تعطل الأغلبية العظمى من الأجهزة الطبية الحيوية، وسط توعد وحشي من قوات الاحتلال باقتحامه والسيطرة عليه.. تطويق بالدبابات والمدرعات من كل الجوانب، وحصار تفرضه قوات المحتل حول المشفى بزعم أنه قاعدة ارتكازية لحركة المقاومة “حماس” ومقاتليها، وهي الادعاءات التي كذبتها وزارتا الداخلية والصحة داخل القطاع معاً، في الوقت الذي يحتضن فيه المشفى عدة آلاف من المدنيين والجرحى والمصابين، معظمهم من الأطفال والنساء، كثير منهم لا يستطيع التحرك والتنقل بسبب وضعيته الصحية الحرجة، وسط صمت دولي مخزٍ.. فماذا نعرف عن هذا المجمع الذي تحول من مشفى إلى ملجأ للمدنيين الفارين بحياتهم من القصف الوحشي الإسرائيلي؟
لم تتأكد أميركا من هيسترية موقفها غير المدروس إلا بعد غرق قوات الاحتلال الإسرائيلي في رمال غزة وعدم قدرة القيادة السياسية ولا العسكرية على إعادة الأوضاع إلى الآن إلى ما قبل السابع من تشرين الأول.
لذلك يبدو أن متغيراً كبيراً قد حدث في الموقف الأميركي، حيث عقد وزير الخارجية الأميركي بلينكن مؤتمراً صحفياً في العاصمة اليابانية طوكيو بعد اجتماع وزراء خارجية الدول السبع، قال فيه كلاماً مهماً عن قطاع غزة ومستقبله، ما يمكن أن يعد تراجعاً كبيراً عن كل المواقف التي أطلقتها الإدارة الأميركية منذ بداية “طوفان الأقصى”.
وقبل الدخول في أهم ما قاله وزير الخارجية الأميركي، نؤكد أن هذا التراجع الأميركي بعد أكثر من شهر على بداية المعركة ما كان له أن يحدث لولا صمود وتضحيات شعبنا وبسالة المقاومة في قطاع غزة وشجاعة وقدرة الحاضنة الشعبية على الوقوف أمام ذلك الاحتلال الغاشم.
وبدأ الموقف الأميركي من العدوان على غزة ينحني متراجعاً عن صلابته التي أظهرها في البداية، وهو تراجع فرضته طبيعة مجريات المعارك على الأرض، فضلاً عن إدراك إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حجم الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت به، ويمكن تلخيص ما قاله بلينكن بأن الاحتلال الإسرائيلي لن يستطيع إدارة القطاع، وأن واشنطن تدعم المسار السياسي للصراع عبر إعادة تطبيق فكرة «حل الدولتين» كمدخل لإنهاء الحرب الحالية.
هذا التبدل المهم في الموقف الأميركي يأتي نتيجة لتضحيات أهلنا في غزة وصمودهم وجهد المقاومة، إضافة إلى حرص الإدارة الأميركية على مصالحها وحفاظاً على جيش الاحتلال الإسرائيلي وحمايته من السقوط والفشل أكثر من ذلك.
يسابق الكيان المحتل الزمن من أجل اختلاق معركة وهمية، يكون مجمع الشفاء ساحتها الكبرى، محاولًا تمرير سرديته المزيفة بتحويل المستشفى إلى رمز غزة الوحيد ومركز ثقلها اللوجستي، وعليه فإن سقوطه يعني سقوط غزة بأكملها، هكذا يتوهم الكيان المغتصب.. ومن ثم فإن السيطرة عليه تمنح المحتل انتصاراً رمزياً ومعنوياً يداري به عوراته التي كشفتها المقاومة ليل نهار، لكنه الوهم الذي سرعان ما ينجلي مع كل تسجيل صوتي يخرج فيه المتحدث باسم كتائب القسام، أبو عبيدة، يعلن فيه بالصوت والصورة معاً وبالأدلة التوثيقية، حجم الخسائر العسكرية في صفوف جنود الاحتلال، متوعداً إياهم بالمزيد من الخيبة والانكسار.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار