«أنيسة عبود» في حوارٍ مفتوحٍ في «قصر الثقافة» في بانياس الثقافي
تشرين- ثناء عليان:
أنيسة عبود أديبة تتزيّن بها الأماكن، وتأنس بها الروح، بدأت مع (النعنع البري) لتغلق (باب الحيرة)، ولتلملم (ركام الزمن ركام امرأة)، وتجيد (عشق الأكاسيا)، تلتفح الحرير الأسود وبعد الأبد برصاصة تنهي (شك البنت– خرز الأيام) وتشعل (الحريق في سنابل الذاكرة)، وترمي قميص الأسئلة في بحر المعنى، لنجد أن هناك تفاصيل أخرى للعشق.. كلُّ ذلك كما وصفتها الشاعرة نعمى سليمان خلال تقديمها في الحوار المفتوح الذي أقيم في القصر الثقافي في بانياس بالتعاون مع جمعية بانياس الثقافية تقديراً لمسيرتها الإبداعية، وبحضور عدد من الأدباء والمثقفين والمهتمين بأدب أنيسة عبود.
خلود الكلمة
وفي تصريح لـ «تشرين» قالت الأديبة عبود: تحية لجريدة «تشرين» التي كان لي فيها ذاكرة أدبية وكتابية وأصدقاء حين كانت ورقية، أما بالنسبة للقاء في بانياس فأنا أقدر جداً دعوة الأصدقاء الأدباء والقراء لنتحاور، ونتعارف أكثر، ونترك مساحة ممكنة لمرور القصيدة أو الرواية والقصة.. هذا اللقاء –تضيف عبود- هو الثالث لي في بانياس الجميلة.. تجاوبت مع الدعوة فوراً شاكرة لهم هذا الاهتمام، مع أننا في سورية موجوعون جداً بسبب الوضع الراهن، وهذا أثر كثيراً في لقاءاتنا الأدبية والفكرية، إذ يبدو أن صوت الرصاص والألم والزلازل يطغى على صوت الكلمة، لكنني مؤمنة بأن للكلمة خلوداً أكثر وبقاء أكثر، وهي القادرة على التغيير وحفظ التاريخ والذاكرة والهوية.. من هذا المنطلق أنا أستمر في الكتابة برغم كل الظروف وكل المواجع، وأستمر في ثقتي الكاملة بجدوى الأدب.
في البداية، قرأ الشاعر علي سعادة الذي أدار الحوار مقتطفات قصيرة من رواية «النعنع البري»، وأكد أن أغلب الحضور قرؤوا للأديبة إما رواية وإما قصة وإما قصيدة، إذ نتابعها منذ «معاً على الطريق» مروراً «بآفاق» وغيرها.
نهاية المشروع الأدبيّ
بدورها عبّرت الأديبة عبود عن سعادتها بلقاء القراء شاكرة اللجنة الثقافية وكل من ساهم في وصولها إلى هذا المنبر، وقالت: جئت لهذا الحوار، لأنه يهمني أن أحاور من قرأني، وقرأ كتبي، لأن النص في حد ذاته لا يعطي فكرة عن الكاتب خلال دقائق أو ربع ساعة، والكاتب بعد تجربة من العطاء والكتابة والنشر لا يعبر عنه نص واحد، وإنما يحتاج إلى نصوص، فتجربة الكاتب هي الأهم في التداول مع القارئ الذي يتابع ما يكتبه المبدع.
وأكدت عبود أنها لم تجد نفسها حتى الآن، ولو وجدت نفسها لتوقفت عن الكتابة، لأن من يجد نفسه يعني في رأيها أنه وصل إلى نهاية المشروع الأدبي أو الإبداعي، كمن ينتهي من رسم لوحة، وفي رأيها أن الكتّاب عندما ينتهون من كتابة نص ما يشعرون بخواء، ولكن بسرعة يتجدد الفكر والإبداع لديهم، ويبدأ القلق كما يقول المتنبي: «على قلق كأن الريح تحتي».
الأمر يحتاج إلى مبدع حقيقيّ
وتضيف: أنا في الرواية أكون كاتبة أخرى مختلفة تماماً عن القصة القصيرة، وفي القصة القصيرة أكون مختلفة عن الشعر، لكن في الحالات الشعورية العالية والتأثر الشديد والانفعالات ألجأ إلى القصيدة، لأنها تعبّر عني أكثر، وتوصلني لما أريد، فالشعر هو حالة إثارة وانفعال آني ولحظي ترافق الكاتب أو الشاعر، وتلهمه لينقل ما يشعر به إلى الورق، وعند الانتهاء من هذه الحالة لا يستطيع الكاتب أن يكتب حتى بيت شعر واحداً، وفي الرواية الأمر على عكس ذلك، فهي تحتاج إلى صبر وإلى نفس طويل وتراكم ثقافي ومعرفي وتاريخي، والكاتب الروائي يحتاج إلى كل هذه الأدوات حتى يبدع، بينما تحتاج القصة إلى تركيز شديد وإلى لغة مختلفة تماماً عن الرواية والقصيدة وهي ليست بالأمر السهل، لأن القصة عمل إبداعي صعب ومكثف جداً، وعلى كاتبها أن يكون مختلفاً، ولذلك هناك قلة في كتّاب القصة القصيرة حالياً، وقلة في انتشارها سريعاً مع أنها حالة شعورية مكثفة ولغوية وأسلوبية هائلة، ولكن الأمر في رأيها يحتاج إلى مبدع حقيقي ليترك بصمة في القصة القصيرة.
مشبعة بالريف وأوجاعه
وعن دراستها للزراعة وعملها في البحث الزراعي قالت: أنا ابنة الريف، وأعتز بذلك وأنا مزارعة، وأهلي مزارعون، لذلك أنا مشبعة بالريف وبتفاصيله وأوجاعه والدليل أن رواية «النعنع البري» مأخوذة من واقع الريف السوري الموجوع، وخاصة أبناء الساحل، وبكل جرأة أقول إنني جسدت مجموعة كبيرة من عذابات أبناء الريف في الساحل السوري، إضافة إلى أبناء المدينة، وكنت معنية برسالتي عن أبناء الريف حسبما وصلتني من والدي وأقربائي ومن المحيطين من أيام السفر برلك، وما عاناه الساحل السوري من فقر واضطهاد واستعباد، ومن خلال «النعنع البري»، انتقلت إلى روايات أخرى مملوءة بهمّ الإنسان ووجعه، وكنت منحازة دائماً لطبقة الفقراء وطبقة أبناء الريف، والبحث العلمي- تضيف عيود- أعطاني مفردات جديدة في الحياة، وجعلني أكتشف تفاصيل أخرى في النبات والإنسان والبيئة والجغرافيا، وأخذت الكثير من القصص من المزارعين، ونسجتها بطريقتي الخاصة.
الثقافة مأزومة
وترى عبود أن الثقافة العربية مأزومة، وجزء من هذا التأزم في رأيها يقع على عاتق المثقفين وجزء يقع على المنظومات الثقافية العربية، لأنها لا تتحمل المسؤولية بجدية، في رأيها، فهي في زمن لا يحتاج السياسي والقادة للكتاب، وأصبحت الرصاصة هي السلاح الأقوى أمام الكلمة، مع أن الكلمة هي الأبقى، وهي القادرة على التغيير التراكمي المستمر، لذلك الثقافة تتحمل مسؤولياتها مجموعة من الأطراف، كما أن «الربيع القاتل» أثّر في الثقافة إضافة إلى التحولات الحالية العصرية التي طرأت على الكتابة الورقية وعلى كل المؤسسات التي تعنى بالورق، والتي تحولت إلى الميديا وشبكات التواصل، وهذا كان له أيضاً أثر على المثقف وعلى المتلقي والمبدع وكيفية إيصال صوته، لافتة إلى أن لديها صفحة تكتب من خلالها كتابات سريعة، وهي كتابات غير مؤسسة تحتاج لنقلها على الورق لتصل إلى القارئ، لأن مواقع التواصل وزيادة عدد الذين يكتبون أضاع الصالح بالطالح، وأضاع تقريباً الأثر الثقافي الكبير.
كتابات لن يمر عليها الزمن
وتؤكد عبود أن أي كتابة يمر عليها زمن إلا الكتابة المتميزة المختلفة التي لها رؤية، كأعمال المتنبي فهي حاضرة دائماً، ولكن الكاتب الذي يستطيع أن يمر بفواصل الزمن ويمر بين اللحظة واللحظة بين الماضي والحاضر، ويصنع له زمنه وإبداعه، هذا لا يمر عليه الزمن، والدليل أن أول رواية كتبتها هي «النعنع البري» لم يمر عليها الزمن، ومن الأعمال التي تفتخر بها عبود وفي رأيها لن يمر الزمن عليها رواية «باب الحيرة» ورواية «ركام الزمن ركام امرأة» التي لاقت نجاحاً ورواية «ساحة مريم» وخاصة أن في الرواية الأخيرة مزجت بين التاريخي والواقعي، وأدخلت فيها الخيال، وصنعت التاريخ الحقيقي، لأن المتلقي يصدق الكاتب أكثر من السياسي، ويصدق الكاتب، ويؤمن به، وبما يؤرّخه في كتاباته أكثر من المؤرخ لكونه ينحاز إلى الجهة التي تحميه، وتشير عبود لي إلى أنها تجاوزت الانحياز، وصححت الكثير من الاشياء لكونها مسؤولة عن هذا، ويجب على المبدع أن يرى أكثر من الإنسان العادي.
مجتمع ذكوري
عاشت عبود وسط مجتمع ذكوري طلب منها التوقف عن الكتابة، لأن الكتابة نوع من التعري الداخلي من مشاعر وغيرها، وتؤكد أن المجتمع الذكوري حتى لو كان مثقفاً يرفض ذلك، والمرأة تحتاج إلى داعم وسند يدفعها إلى الأمام، وإلى رجل يقف إلى جانبها، ويكون عوناً لها لتستمر، والكتابة تحتاج إلى جرأة وتخطي المجتمع والعادات والتقاليد..
السيرة الذاتية
وعن السيرة الذاتية قالت عبود: كل قصة يكتبها المبدع هي سيرة ذاتية، والسيرة الذاتية تتبعثر مع تعدد الكتابات، ففي (النعنع البري) الكثير من سيرتي الذاتية ومن حياتي الريفية، ولكن البقية خلق وخيال، وفي (باب الحيرة) انطلقت من سيرتي الذاتية، وأي كاتب لا يستطيع أن يرمي بسيرته، ولابد من وجود خيوط، ولكن كل كاتب حسب مقدرته يطور هذه الخيوط، نحن، ككتاب، تجذبنا السيرة الذاتية، وفي الإبداعات الأخيرة قلما كتبت من سيرتي الذاتية، ولم تتجاوز
الـ( ٥% )، والبقية من صنع الخيال.
وتختم الأديبة أنيسة عبود مؤكدة أن اتحاد الكتّاب العرب يقوم بدوره قدر المستطاع في التصدي لكل من يشوّه كتابات الكتّاب، وهو لا يستطيع الوصول إلى كل ما ينشر بسبب إمكاناته المحدودة.