معركة وجود في ذروتها 

تشرين- إدريس هاني: 

– ما يجعلها حقّاً معركة وجود بامتياز، ما تشهد عليه المجازر القصوى ضدّ المدنيين، الأعمال المجرَّمَة بموجب القانون الإنساني الدّولي، وما تشهد عليه مظاهر الإبادة الجماعية، في التلويح باستعمال السلاح النووي، في حجم اللوجيستيك الذي يُقدّمه حلفاء الاحتلال، في حجم الاستهتار بآخر ما تبقّى من مصداقية للمجتمع الدّولي. كل شيء هنا يشير إلى أنّ المعركة تجاوزت كونها ذات أهداف سياسية، بل هي معركة محكومة اليوم بالتّخبّط والفوضى واللامعنى.

إنّ التلويح باستعمال السلاح النووي هنا، له معنى غير مسبوق، حتى مقارنة بهيروشيما وناكازاكي. إنّ إطلاق القنبلة الذرية لأوّل مرة على المدينتين، كان يستهدف جيشاً إمبراطورياً جرّاراً. ستكون أوّل مرة يُستعمل فيها السلاح النووي جهاراً ضدّ حركة مقاومة. سيجد ذلك مرجعيته في استعمال قوات الاحتلال الإسباني للسلاح الكيماوي ضدّ مقاومة الريف بقيادة ابن عبد الكريم الخطابي، الذين احتموا بالجبال، اليوم يحاول جيش الاحتلال اقتحام غزة، ولا أخال الأمر يتعلق بهدم الأنفاق، بل باستعمال أسلحة محرمة، أهونها الكيماوي، ذلك نظراً للموانع البيئية لاستعمال السلاح النووي. سأتحدّث هنا بمنطق الجغرافيا. إنّ مساحة هيروشيما- واحدة من المدينتين التي ألقيت عليها القنبلة الذرية- تُقدر بـ 906.7 كلم مربع، ومساحة ناكازاكي- المدينة الثانية- تقدر بـ 405.9 كلم مربع. بينما مساحة غزة تقدر بـ 365 كلم مربع. استعمال النووي سيصل إلى الجيوب والمستوطنات، ناهيك بأنّ الاحتلال يراهن على حيازة غزة نظيفة من الآثار نووية.

– ليس أمام الاحتلال سوى الإقدام على جريمة استعمال أسلحة نووية تكتيكية لن ينجو منها جنوده، أو أسلحة كيماوية، وهذه لن تمكنه من التغلب على المقاومة التي تدرك كل هذه الاحتمالات، وهي مزودة بوسائل دفاعية متطورة. الاحتلال يقاوم التحدي الجديد للمقاومة، ويقاوم ضدّ القواعد الجديدة التي فرضتها هذه الأخيرة. إنه لا يُقرّ بتوازن الرُّعب، لأنّ مصيره يتوقف على احتكاره فرض الحرب وحسمها.

– تحتاج غزّة إلى ضغط حلفائها أكثر، هي ليست في حاجة إلى خيل ورجال، بل هي في حاجة إلى صرف الاحتلال عن التفرد بغزّة، بتعبير آخر، إنّ حلفاءها لن يستطيعوا تمكينها من الردع الجوي، لأنهم هم أنفسهم واجهوا هذا الوضع، وتعرضوا للتدمير والخراب الذي تحدثه القوة الجوية، لن يستطيعوا إيقاف استهداف المدنيين، ولكنهم يستطيعون استنزاف الاحتلال، إيقاف التدخل الأجنبي. هل سيعترف لهم خصومهم الأيديولوجيون بالفضل عند أي صنيع؟ هم مُدانون حتى في عزّ التضامن الميداني، فكيف من دونه؟ في مقابل ذلك، إنّنا نتساءل: من أين تنطلق طائرات الاحتلال بهذا الزخم. حتى الآن ماكينة التضليل تستهدف فقط حلفاء المقاومة، ولكنها تستند إلى منظور الحكمة والتفهم والتقدير للخطاب غير المؤثر للدول التي اعتقدت أنّها بديل عن محور المقاومة. لا أحد يُسائل الخليفة العُثماني الذي قدم الكثير من الكلام والأوهام على إيقاع أزيز طائرات الناتو المرابطة في تلك القواعد، حول أفق التعاون التجاري والأمني مع الاحتلال، ومع ذلك هو غير مُلام، ذلك ناتج عن دور القوة الناعمة في تضليل الرأي العام، القابلية لتلقي الوهم والتصفيق له. حالة غريبة في منطق الأحداث. البيئة الحاضنة للوهم.

– منذ 1948، كانت الغاية من كلّ عملية، هي الحفاظ على القضية الفلسطينية حيّة في وجدان الشعوب وضمير العالم. وحتى الآن حققت المقاومة هذا الإنجاز، وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة.

كان الاحتلال قد بدأ يتصرّف كإمبراطورية، وقد تحلّل من كل ما يُلزمه تجاه المُستعمَرة الفلسطينية. لم يترك الاحتلال من خيار للمقاومة، لكي تستعجل مواجهة كبرى، وبإيقاع رفيع، ونمط مختلف عن الحروب السابقة.

– حتى الآن لم يحدث تقدّم استراتيجي في عمق غزة. بعد أكثر من ثلاثين يوماً، لم يشهد العالم سوى حرب ضروس على الأطفال، يا للعار، لكن التقدم يُحسب بالأمتار، وما زال في الأحراش. هذا ناهيك بالكمائن وحجم الخسائر التي تكبدها جنود الاحتلال في الأرواح والمعدّات. إنّ فكرة خوض حرب ضدّ غزة بصفر ضحية باتت مستحيلة.

– هناك غزّة أخرى تحت الأرض، حيّدت جدوى القوة الجوية على مواقع المقاومة التي يبدو أنّها باتت أكثر دينامية من أي وقت مضى. فإذا كانت قوة المقاومة تقوم على القدرة على الاختفاء والتنكر، فهي اليوم بلغت ذروتها في هذا الفن، إنّها مقاومة شبحية.

– لقد تجاوز الحدث كلّ أنماط التحليل السياسي. لا أحد اليوم يملك عناصر حقيقية للتحليل سوى المعنيين بالأمر على الأرض. خارج فلسطين وخارج المحور المعني بالمواجهة والتنسيق، يوجد مجرد القيل والقال، وتدوير زوايا بمعلومات سطحية أغلبها يمتحي من رأس أحمق. أستطيع أن أكشف عن تفاهة تلك التحليلات التي لم تترك مساحة غموض لدى من هم في الميدان. إنّ حركة النّصب والاحتيال في سوق المعلومة، والبروباغاندا الزائفة، مظهر من مظاهر الفوضى الذي تحيط بالمقاومة التي لم تُشهد أحدا على ما تفعل. هناك ما نسميه هنا بـ«كاري حنكو».

– ثمة حرب أخرى، هي حرب الرسائل المرموزة. كل شيء متوقّع، لكن ضابط الإيقاع في حرب قد تأخذ أبعاداً شاملة، لديه ما يكفي من العلم بما يصعب أن يدركه من لا يحيط بتفاصيل ما يجري خلف المواجهة. هنا وجب أن لا يكون الافتراض إلاّ افتراضاً يُلزم صاحبه، لكن الحسم في القراءة السياسية بات ظاهرة. السبب غياب علم السياسة، وإحلال الظنّ محلّ القطع، وهي حالة فائقة، تغذّيها غريزة الآمال الخائبة أو الكيدية التي تسكن قعر البيئة العربية التناقضية.

– لا أعتقد وجود وضعية أسوأ من هذه التي تعيش على يومياتها غزّة. إنّها تهديد أيضاً للضمير الإنساني. أي مستقبل لمنظومة القيم الإنسانية بعد كلّ هذا النّزيف؟ البُعد الإنساني لأحداث غزّة يستحق المُخاطرة، لكن الاحتلال رفع السّقف عالياً: القضاء على حماس وتحرير الأسرى. وحتى الآن لم يتحقق أي هدف ضد المقاومة. كان هدف الاحتلال دائماً إخلاء غزّة، وهو يحاول أن يجعل من هذه المعركة فرصة لتحقيق هذا الحلم القديم للاحتلال. المجتمع الدولي وتحت الضغوط اليومية وحراكات الشعوب والأمم الرافضة لحمام الدم في غزة، وتداعيات الموقف، رفضوا مخطط نتنياهو وحكومته اليمينية، التي تخفي فشلها في لعبة التلويح بالإبادة..

– قدر المقاومة أن تنتصر، لأنّ أهدافها تاريخية ومنطقية، إنّها ستظل مفتوحة ضد الاحتلال من أي زاوية كانت. إذا استمر الوضع كذلك، ستتغير الحسابات، نتحدث هنا عن الضفة الغربية، عن القدس، عن فلسطينيي الـ48، عن المحيط العربي، عن تناقضات المصالح في المجتمع الدولي. حتى الآن، لم يعد الاحتلال قادراً على تنفيذ مخططاته بخطاب «الدفاع عن النفس». لقد سقطت أكذوبة الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، فهي ترهن شعبها المصطنع لوعد توريطي وسردية تتناقض مع القيم الكونية، مع سنن الاجتماع السياسي للأمم.

– تراجع التفكير العميق بخصوص هذه الأحداث، في بعض المجتمعات العربية إن لم نقل معظمها، تمّ تسليم النّقاش العمومي لنُخب مُلتبس أمرها، وغالباً ما تزيد الوضع التباساً، لأنّ مسّ جوهر الصراع، أدوات المقاربة، الذكاء، الخبرة، الحدس، يظل غير وارد داخل هذا المارستان. نُخب لا تتوافر على إقرار العدول من ذوي الخبرة بكفاءتها، لا تتوافر على مجلس حسابات يُراقب جودة السلع المستهلكة. التّضليل وغياب أو تغييب المثقف من دائرة التمكين في التخاطب، يجعل المشهد ساحة لعبثية قُصوى. هل هي مُلهية للوعي الجماعي؟

– لم يَحنْ الوقت لنفتح ملحمة تقويض مزاعم سماسرة النّضال بالمراسلة، تفكيك مسلسل الدّجل وخطاب نفخ الذّات كبالون هواء، يا للتّفاهة، هل تكذبون على الرأي العام وتظنون أنّ اللّعبة الذبابية قادرة على كتابة تاريخ مزيف، أمام شهود ليسوا من طينة الأغبياء ولا من شهود الزّور؟ إنّنا نتفرج إلى حين.

– انتصار المقاومة مكسب للشعب الفلسطيني، مكسب للعرب الذين بدأ الاحتلال يبحث فيهم عن أعماق استراتيجية وشهادة زور على مُضيّه في محق القضية الفلسطينية، مكسب للعالم والسلام العالمي ومصداقية القيم الكونية، مكسب حتى لليهود الذين آثروا العيش في بلدانهم ورفضوا المغامرة في وطن انتُهِك فيه وعدهم التوراتي بوعد بلفور، فلا قامت لهم شريعة ولا سياسة، مكسب لمفهوم الدولة والوطن والمجتمع والإنسان. أي تصور بريء للسلام العالمي بقي بعد أحداث غزة.

– حين يئنّ الطُّفل، وتجري الدموع على خدود الأمهات، ويٌصبح اليُتم حديث يوميات القصف، وحين يطول الوجع، ويجوع الناس، يُصبح اللامعنى يتهدد الوجود، حين ينتفض شعب عظيم كالشعب الفلسطيني المكافح، يصبح كل هذا في رصيد شعب تشهد له الدماء والبراءة والقصف أنّه لم يفرّط ولم يستسلم. لا أحد يملك بعد اليوم أن يعطي دروساً لهذا الشعب في الكفاح، إنه نموذج فريد في سجل الكفاح التحرري البشري.

غزّة اليوم شهيدة وشاهدة على ذروة الانسداد. العالم يقوم على الأحاسيس، العلاقات الدولية عند أهل الخبرة تقوم على العواطف أيضاً، كلمات ومصافحات، لقاءات حميمية خارج أروقة التدبير، قد تصنع علاقات بقدر ما تؤدي العواطف إلى حروب. في كثير من تلك المُقاربات المبهمة والتبسيطية، يغيب العقل وتغيب العاطفة، ولا صوت يعلو على التّفاهة.

– هل سينتصر الغرب التنويري على الغرب الإمبريالي؟ هل سينحط التنوير ويخضع هو الآخر لتدوير الزوايا، لنصبح حقّاً أمام ظلمات الأنوار، ذلك الارتداد الذي قاده العقل في لحظة انزوائه وتشيُّئه، عقلاً أداتياً خان قيم التنوير واختار وظيفة التبرير للإمبريالية والتوحّش، غرب تخلّى عن الأسس؟

وإذا كان التنوير في الغرب يعيش لحظة الخيانة العظمى، كما في جدل التنوير لأدرنو وهوركيمر، وكذا احتجاجات ادغار موران، فإنّ وضعيته في مجالنا العربي باتت غريبة الأطوال، التنوير كاستراتيجية لتبرير الاستعمار، والتبعية، واللامعنى والتّفاهة،و لا سيما حين يٌصبح دهاقنة التنوير المُمسرح لا يمتلكون تُرسانته النظرية، ومقاصده وشجاعته، والأهم من ذلك حسن النّية الملازم لكل موقف إنساني، إذ إنّ خيانة العقل لأسس التنوير بعد تحوّله الوظيفي الأداتي والإمبريالي، ليس تخلّياً نظرياً، بل هو تخلٍ عملي، قوامه التخلي عن حسن النية، التي منحها ديكارت نفسه أهمية في إدارة الحق ودفع الزيف والتضليل. ذلك درس مفروش في طريق التّأمّلات، إنّنا في ذروة المعركة الحضارية لا نمتلك الحس المشترك نفسه، ولسنا في العقل والمعقول سواء.

– ما زال التشكيك في جدارة المقاومة، في قدرتها على المبادرة، يهيمن على بعض المقاربات المتجاوزة. هناك من يفترض، ثم يجعل من الفرضية أصلاً يقيم عليه حشواً من البرهنة الزائفة، الافتراض قد ينبع من حدس سليم وقد ينتج عن شعور حاد بالهزيمة. لكي تفكّر أفضل يجب أن تتحرر من مشاعر الهزيمة، أي أن تقاوم تبلد الإحساس، لكي تفهم معنى المقاومة.

– من مقتضيات معركة الوعي، مقاومة التبسيط، مقاومة كل ما هو زائف ومقوض للمصداقية والإنصاف. أمام الأحكام المتقلبة والمصادر غير الدقيقة، لا ننصح ببناء تصور من خلال تكهّنات السيد عطوان. تلك المصادر التي يبني عليها عادة تكهناته عن موقف المقاومة، أبصم بالعشرة أنّها حدّوثة.

– لا أحد من حلفاء الاحتلال مستعد أن تحترق المنطقة بسبب رغبة نتنياهو في إكمال مخطط التدمير. هل المقاومة مستعدة لخوض معركة التفاوض وإدارة تبادل الأسرى؟ المساعي تستعجل إيقاف إطلاق النار، وأيّاً كان مآل المفاوضات، كل هذا لن يمسح معالم الإجرام عن الاحتلال. كل هذا لن يحول دون واجب النهوض بمعركة المرافعة ضدّ مجرم الحرب، وجب التفكير من الآن في كيفية تدبير مرحلة ما بعد الحرب، ليست الهدنة منّة من الاحتلال، بل هي نتيجة مقاومة وصمود.

– تحت هذا الرماد، من هذا الوجع المُؤلم، من ملحمة الصمود، من دموع اليتامى، من هذا الاحتراق، يولد أمل شعب الجبّارين، ويولد الجميع معه، هل سيولد العالم الجديد من غزّة؟ إنه لا خيار عن ذلك، فإما يكون أو لا يكون.

كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار