نقطة نظام

تشرين- إدريس هاني:
من نصدّق يا ترى من بين عشرات المحللين ذوي النعوت الوهمية، في فهم ما يجري حتى اليوم؟ فأمّا الثرثرة التي أتاحها النّمط الإعلامي اليوم، في حقبة ما بعد المثقف العضوي وما بعد الإعلام النزيه، فهي سيدة الموقف. الكذب على الرأي العام، واستهداف المتلقّي بصبيب من التضليل، يستند إلى مغالطة التحشيد والتكرار، بات تهديداً لكل ما هو واقعي اليوم.
استقالة المثقف وانهيار الإعلام النزيه، واكب هيمنة التّفاهة بوصفها ليس فقط تفاهة، بل بوصفها وظيفة، هدفها ليس الإقناع، بل إصابة الوعي بعطب خيبات الأمل من تعذر تحقق الحقيقة والقبض على الواقع.
تستطيع تفكيك الخطاب الإعلامي غير الآبه بالذّكاء. فهو يستهدف القطيع، ويكرس فيهم حالة القطيع، ولا يجتهد في تنمية باراديغم التفاهة، فهي تفاهة مُعلنة، والعناد بالتفاهة وفي التفاهة منهاج قارّ في نظامنا التربوي والثقافي والإعلامي زائد ثم زائد.
ثمة تبادل أدوار، فالنوابت التي لن يكون لها وزن في المشهد السياسي أو الثقافي، تجد في صناعة التّفاهة فرصة تاريخية، لأنّها مهنة سهلة، لأنّها مجرد متاجرة بالضمير. تبدو مهنة التّفاهة صنو مهنة الإجرام الاحترافي، لأنّها غير آبهة بأي قيمة من قيم الإنسان، ولكنها عند الاقتضاء تستعملها في نقيض الأطروحة.
الحرب في غزة كشفت منسوب ومحتوى ما ينطوي عليه خطاب الأنسنة، في لحظة تصوْلُن المفاهيم الكبرى. وحيث لا يوجد توحّش أكثر وضوحاً مما يجري اليوم في غزّة، ماذا بقي في جعبة التّفاهة من أدوات الإقناع؟
أستطيع أن أؤكد هنا أنّ عدداً من الحقائق التي ترشق بها التّفاهةُ المتلقّي، هي ليست استهانة بذكائهم فحسب، بل هي تدخل عندي أيضاً، فيما اعتبرته دائماً مؤامرة ضد الدماغ البشري. هذا الأخير في حالة ردّة إلى ما قبل النياندرتال، إننا نقترب منهجياً من دماغ الشامبانزي: التقليد البليد والتكرار المُمل.
هناك ظاهرة تكامل أدوار ومسارات السماسرة، سواء تعلّق الأمر بمن اصطفوا مع الاحتلال كعبيد المنزل، يجرمون المقاومة بمعلومات تافهة، تعكس أمّية مضمّخة بالتبييت، أو تعلّق الأمر بسماسرة من نمط آخر تفرزهم ساحة الممانعة، تعرفهم بطول اللسان وقلّة التضحية: رابحون على طول الخطّ، كالمنشار يأكل صعوداً ونزولاً. وهؤلاء ملّة واحدة، ووجهان لعملة واحدة، هم عامل أساس في إعاقة الحلّ. تجريم القضية وتدكينها أمران متكاملان. “شرعنة” الاحتلال و”تصنيك” النّضال سيّان.
نحن أمام احتلال تركيبي، يستغل كل فجوة، كل فرصة، كل لعبة، لينفذ إلى آخر المشوار. ليس احتلالاً بالمعنى الكلاسيكي للعبارة. لقد تجاوز من وعدوه بالأرض على حين غفلة من أهلها، هو اليوم بعد أن كان مشروع خلاص من مجموعة بشرية، بات عبئاً على الإمبراطورية الغربية.
نتحدّث اليوم، عن دولة، ونمنحها تلك الصّفة بموجب تنزيل سطحي لمعنى الدولة في القانون الدولي. مغالطة ثلاثية الأرض والشعب والنظام. تستطيع أي مجموعة أن تصنع لها نظاماً، لكن الأرض ما زالت في ذمة النزاع، لا شيء سوى الوعد والاعتراف المسبق قبل حلّ الدولتين نفسه. وأمّا وجود شعب، فهذه مغالطة، لأنّ اجتماع شعب على أساس معتقد وليس على أساس الدولة نفسها، لا يمثل شعباً. هناك دول يجمعها المعتقد لكنها لا تمثل شعباً واحداً. وهناك دول تجمعها آصرة الشعب وهي مختلفة الأهواء والنحل. لا توجد ها هنا مقومات الدّولة، وهذا هو جوهر المشكلة، بين من يرى أنّ المخرج الوحيد للاحتلال إلى السلام هو العلمانية، ومن يرى أنه لا مناصة من الدولة التوراتية، وكلاهما يخلق نقيضه المُقوِّض، لأنّ الجوهر مُلتبس، ولأنّ ثمّة ما يشكّل هاجساً في لاوعي الاحتلال: تحقيق الوعد باعتباره حقيقة وليس خدعة لصنع محرقة أخرى. اليوم الغرب يدرك أنّ خدعة الوعد باتت مكشوفة. نتساءل بدورنا: هل الغرب مستعد لاستقبال النازحين من المستوطنين؟ إنّه يشجع على الحرب، لإقناعهم بالتفوق، وأيضاً لاستنزافهم في حرب لن يربحها الاحتلال حتى وإن دكّ سطح غزّة كلّها.
تبدو الحرب غامضة، فوسائل الاتصال منقطعة، والاحتلال يخشى من نقل الصورة، لاسيما عمليات التموجد خلف خطوط جيش الاحتلال، عدد القتلى والخسائر في المعدات، حجم الدمار الذي تحدثه الصواريخ في عدد من مدن فلسطين المحتلة. العجز عن التقدم البرّي. زهو الاحتلال بأنّه امتدّ إلى أعماق الشعوب العربية انتهت، فهو عاجز عن إقناع حتى حلفائه، حيث الشارع الغربي ينتفض ضدّ الاحتلال، وحين نرى كلّ هذا ونعاند بتجميل وجه الاحتلال، نكون أمام حالة فارقة، وحده التّاريخ سيحتفظ بها كحديث خُرافة.
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار