العلاج متاهة أحياناً
متاهة ما بعدها متاهة تلك التي قد يضيع في ثناياها بعض الأشخاص عندما يبدؤون رحلةً علاجية ولا يعرفون سبيلاً للخروج منها، وخاصةً في الحالات التي لا يمكن بالتشخيص السريري تحديد نوع المرض فيها، فتكون مفتوحة على كل الاحتمالات وتستدعي من الطبيب طلب موجهات للتشخيص كالتحاليل أو الصور.
تبدأ متاهة المريض عندما يقصد مخبراً طبياً ما غير الذي قد يوجهه إليه الطبيب لإجراء التحاليل، مدفوعاً باعتقاده أن نتائجه ذات مصداقية أكثر من غيره بحكم التجربة، أو لأن هناك علاقة تربطه بصاحبه قد تشفع ببعض الحسم من قيم التحاليل الباهظة جداً، إذ إن الطبيب قد يشكك بالنتائج ولا يقبلها ويصرّ على تنفذيها في مخبر آخر محدد، بالرغم مما يرتبه ذلك من أعباء مالية إضافية مرهقة.
وأملا بالتشخيص الصحيح وبلوغ الشفاء قد يرضخ المريض مرغماً لإعادة التحاليل في مخبر بعينه، ومن دون أن يلتفت فيما إذا كانت هناك خلفيات أم لا من وراء ذلك، ولا ضير فيما لو أنه استفاد بالعلاج، لكن الطامة الكبرى لو لم يستفد، حيث سيضطر حينها للذهاب لطبيب أخر، وهنا تبدأ مرحلة أخرى من المتاهة، إذ يطفو التشكيك بالتشخيص السابق والإشارة إلى عدم جدوى الدواء الموصوف وأن له آثاراً جانبية، وحتى التشكيك بتحاليل المخبرين -الكيفي والمحدد- وطلب تحاليل جديدة في مخبر ثالث.
إذاً؛ ما يسود مؤخراً من محاولة للاستئثار بالمرضى بدافع المصلحة والتربح أكثر، هو ظاهرة التشكيك التي يكاد يلمسها معظمنا، فهذا المخبر يشكك بنتائج الآخر وقد يتهمة باستخدام مواد منتهية الصلاحية أو من منشأ غير موثوق، والآخر يشكك بنتائج الأول مدعياً أن أجهزته لا تخضع للمعايرة الدورية أو حتى لا تجدي معها أي معايرة لقدمها، ودور الأشعة على المنوال نفسه حيث تنال من سمعة بعضها، وكل منها يطلب من الأطباء تزكيتها وتوجيه المرضى إليها من دون غيرها.
كذلك حالة التشكيك قائمة فيما بين الأطباء أنفسهم بالاختصاصات الأخرى، فهذا ينال -وإن بشكل غير مباشر- من خبرة الآخر وينتقده على سبيل المثال لوصفه أدوية تحتوي الكورتيزون ليشعر المرضى أن علاجه ناجع وسريع، وذاك يغمز من جانب مصدر شهادة غيره الطبية من دول أخرى للتشكيك بقدراته، أو يلفت إلى عدم تطوير خبراته وبقائه على ما تعلمه في دراسته.
بالطبع لا يمكن التعميم، فهناك أطباء يلتزمون بالمعايير والضوابط المهنية سواء فيما بينهم أو مع المرضى، لكن ذلك لا يعفي الجهات الرقابية من ضرورة الوقوف الدوري على عمل المخابر، والتثبت من مدى وثوقية تحاليلها، ولا يعفي نقابة الأطباء من إيجاد سبل التعليم الطبي المستمر لمواكبة كل ما هو جديد، إلى جانب تعزيز معايير هذه المهنة الإنسانية وتحت جناحيها الرأفة بحال المرضى الفقراء، فضيق حالهم في ظروفنا لم يعد يحتمل مزيداً من التجريب والتشكيك.