ملف «تشرين».. اللاجئون السوريون وقصص الاغتراب.. بين منطق «الضيافة» ومنطق المُضيف تضيع الحقوق والأجيال
تشرين – بارعة جمعة:
ما تُمليه ضرورات النجاة من الأزمات والتهديدات يُحتِّم على مُتّخذي قرار الهجرة أو اللجوء مواجهة مخاطر وتداعيات.. ربما لم تكن الصورة واضحة كما يجب، وربما كان الأمل أكبر من المأمول والمتوقع، في بلاد سمّاها البعض غربة لما تحمله من تغرب عن الحقيقة والواقعية، وقد تكون بعيدة كل البعد عن متطلبات العيش بأمان واستقرار، بدءاً بمواجهة فكرة اللجوء وتسمية المهجر غير المرحب به أصلاً، وانتهاء بعدم التوافق مع ثقافة وقوانين مجتمع بُنيَ بالأصل على الاختلاف بمفهوم العصر الحديث، والغزو الفكري البعيد عن مجتمعنا العربي برُمَّته.
موضة العصر
تقليد غزا عقول العائلات بكل أطيافه، يحمل معه أحلاماً لواقع مبشر بالخير والأمل، لكنه في الوقت ذاته، يعكس تناقضاً كبيراً بين الأحلام والأمنيات، ضمن بيئة بعيدة كل البعد عن ثقافة المجتمع العربي، توصيف قدمه الدكتور في القانون الدولي أوس درويش، يحكي قصة الاغتراب لكثير من العائلات، التي عانت الويلات من جراء الهجرة غير المدروسة، لدول وبلدان ومجتمعات غير مألوفة، سببت الكثير من التفاوت بين العائلات والأفراد بمن فيهم الأطفال المهددون مسبقاً بقوانين لا تحمي العائلات نفسها، عدا عن قيم اجتماعية وثقافية عدّها الدكتور درويش وبالاً على ثقافتنا العربية الأصيلة.
شبح الهجرة يغزو عقول العائلات والأفراد بمثابة التقليد الأعمى والضياع بين الواقع والمتوقع
ولكيلا نذهب بعيداً عن شرح التفاوت الكبير بين القيم، قدم الدكتور أوس درويش رؤيته في قانون المُساكنة الذي لم يكن بعيداً عن الولوج ضمن عقول أبنائنا، ممن خرجوا للعمل والعلم أو كسب العيش، ما انعكس خوفاً من العائلات نفسها على أبنائها، ممن عرفوا بامتلاكهم الكثير من التميز وبكافة الاختصاصات، ما جعلهم الأسبق لحصد الجوائز والمقاعد الأولى.
واقع لم يعد بعيداً عن متناول أحد، بدءاً من استغلال العقول والأفراد والشهادات التي لم تلقَ التقدير في كثير من الدول، لا بل وصلت حدَّ عدم الاعتراف بها وعدم تعديلها، هنا لا بدَّ من النظر إلى الاختلاف الكبير بين الخيال والواقع المنشود الذي وضع الكثير أمام متاهات العودة للوطن، الذي قدّم هذه الخبرات جاهزة لبلاد الاغتراب، أو البقاء هناك ومصارعة واقع لا يرحم.
تصنيفات قديمة
تتعدد التسميات والنتيجة واحدة، حيث لا يمكنك الهرب من هذه المصطلحات القديمة الحديثة، فالمغتربون التقليديون المقيمون بالخارج قبل الحرب، وبغض النظر عنها، ذهبوا لغاية الإقامة والعيش والعمل أو الاستثمار، وفق توصيف الدكتور في علم الاقتصاد عابد فضلية لهدف الهجرة سابقاً، ومعظمهم في دول الخليج وبنسبة أقل في دول أوروبا، وبنسبة أقل بكثير في الولايات المتحدة الأمريكية، وبمن فيهم أيضاً كمغتربين جدد نسبياً، أي بعض الموفدين والدارسين والأكاديميين ممن أنهوا دراستهم في ألمانيا وروسيا على وجه الخصوص، ولم يعودوا بعدها إلى سورية.
بالتالي فإنّ ما يخص موضوعنا حول السوريين المقيمين والموجوين في الخارج من الأكاديميين والأطباء والمتميزين من جهة في دول أوروبا ودول الخليج، وأولئك الهامشيون والمهمشون من جهة أخرى ممن وُجِدوا طوعاً أو قسراً أو مؤقتاً في دول الجوار مثل تركيا ولبنان والأردن وبنسبة أقل في قبرص وفق فضلية، معظم وجودهم هو استحياء أو على مضض وعدم رضا من قبل الفرقاء الحكوميين والحزبيين وذوي الميول اليمينية في هذه الدول.
د. فضليّة: الدول المُضيفة بأنظمتها وبيئتها المادية هي
بمنزلة مهجع وكانتونات مأوى لتلميع شعار حقوق الإنسان
أما بالنسبة للسوريين المغتربين والمقيمين في أوروبا وخاصة ألمانيا وبنسبة أقل في السويد وبلجيكا وبنسبة أقل بكثير في فرنسا وهولندا وبعض الدول الأوروبية الأخرى، لا بدّ هنا من النظر والتركيز بصورة خاصة على وضعين متناقضين للسوريين في أوروبا، إيجاباً في ألمانيا وسلباً في السويد، ولا داعي للتطرق إلى المتواجدين في تركيا بسبب الكثير من التناقضات والإشكالات التي تحيط بظروفهم هناك.
تمثيل دبلوماسي
لحضور وإقامة وعمل الجالية السورية بكل فئاتها وتقييماتها في بعض الدول العربية والأجنبية، عدة جوانب وأوجه إيجابية وسلبية، مؤقتة ودائمة، مباشرة وغير مباشرة، من حيث التأثير بالوقت ذاته على البلد الأم سورية وعلى الدولة المستضيفة، ومن كل النواحي الاقتصادية الإنتاجية الخدمية التنموية التمويلية والمالية، الاجتماعية والمعيشية، الكمية والكيفية، الثقافية والمعنوية، وفق رؤية الدكتور فضلية للواقع، وكذلك على المستويين الجزئي والكلي، الفردي، العائلي والمجتمعي.
إذا ما استثنينا من حديثنا الوضع البائس للسوريين في تركيا ولبنان، وأخذنا على سبيل المثال وضعهم المادي والمعنوي، الاقتصادي المادي والاجتماعي في أوروبا عموماً، عدا ألمانيا، وفي دولة السويد على وجه الخصوص، سنرى – والحديث للدكتور فضلية- بأن هذه الدولة بأنظمتها وبيئتها المادية بمثابة مهجع وكانتونات مأوى للسوريين، ممن عرفوا باستهلاكهم واستخدامهم لكل ما يتم تقديمه لهم، الذي وصفه فضلية بالتلميع لشعار حقوق الإنسان في السويد، وأكثر مما هو واجب أممي دولي مدني مادي، يدفع الكثير من عائلات المهجرين ثمنه أطفالاً تجردهم وتنتزعهم منهم سلطات ومنظمات اجتماعية وحكومية، بحجة حمايتهم من تعسف الأهل في تعاملهم المنزلي معهم، ليتحول هؤلاء من صفة البشر إلى صفوف الرقيق.
صراع الثقافات
كل ذلك يتم في محيط وثقافة وسلوكيات أخلاقية مجتمعية أوروبية غربية وغريبة سويدية شاذّة بعيدة كل البعد عن الموروث السوري الديني والأخلاقي والثقافي والمجتمعي المُحافظ.
د. درويش: الاختلاف الكبير بين الخيال والواقع المنشود
وضع الكثير من العائلات أمام متاهات العودة للوطن أو البقاء ومصارعة واقع لا يرحم
ويضيف فضلية: هي حكايات ووقائع وأحداث عاشها وعايشها الكثير من العائلات السورية اللاجئة، بألم وحزن وندم، يروونها خلال رحلة هروبهم وعودتهم إلى ديارهم وفي أحضانهم أطفال خائفون، وفتيات وفتيان ما زالت أنوفهم مكممة من رائحة الفسق وأعينهم مغطاة من ممارسات العري والشذوذ، ويوماً بعد يوم نجد بأن هنالك تزايداً لأعداد ومحاولات الخروج والابتعاد عن حدود دول وثقافة مجتمعات، لم يعد أي سوري عائد إلى وطنه الأم يقرأ أي ملحمة عنها.
فالشباب الذي يعمل خارجاً، دون النظر لطبيعة العمل أو الهدف منه، سوى الحصول على رواتب مغرية يعيش الكثير من الضغوط النفسية والاجتماعية برأي الباحثة الاجتماعية الدكتورة غالية البغدادي، فما يقدمه البلد المقيم من تسهيلات تقابلها التزامات من الشباب أنفسهم، جعلت منهم أشخاصاً بعيدين عن واقعهم، همهم جمع المال، هي ثقافة العائلات قبل الأولاد ممن نمت لديهم فكرة السفر كحل لكافة مشكلاتهم من دون النظر لما يعانيه أبناؤهم من نسيان للأهل، الذي بدوره خلّف أزمات اجتماعية آنية ومستقبلية تهدد المجتمع العربي كله، عدا عن تركز العبء في كثير من الأحيان على المرأة لتأمين حياة كريمة لأبنائها بغياب الزوج.
الاحتفاظ بالشباب أهم من خروجهم، ثقافة لا بدّ من تعميمها بين العائلات قبل الشباب، ممن انساقوا خلف نماذج كان لها من الحظ الوافر قسط من النجاح برأي الدكتورة البغدادي، فيما الأغلبية يعانون الويلات مع حالة من انفصام عن الواقع تصدرها صفحات السوشيال ميديا لواقع غير حقيقي، هنا يأتي دور التوعية لعدم الانسياق خلف الانحرافات التي باتت واضحة ضمن ثقافة الغرب، لا بل تدرّس ضمن المدارس، ولاسيما موضوع المساكنة الذي يغري الفتيات لمواجهة ظروف حياتهم بالخارج، والمثلية التي تهدد جيل الـ2000 من الانجراف خلفها أيضاً.
نعم السفر هو حلم الشباب، لكن التوعية ضرورية لهم، وهو ما يجعلنا نطالب بدعمهم للبقاء وعودة المغتربين وعدم الترويج لصورة السفر عبر الصفحات غير الواقعية، فالواقع يعكس عدم التقدير واستخدام الشباب للعمل فقط.
سياسة الأبواب المفتوحة
أما في الجانب الأوروبي الآخر، وعن حال ووضع السوريين في ألمانيا فهو مختلف تماماً برأي فضلية، حيث سعت وخططت ونجحت الحكومات الألمانية تحت عنوان «حق وشرعنة اللجوء» في استقدام وجذب السوريين عموماً، مع التركيز بكل خاص على ذوي الكفاءات العلمية والطاقات العملية والمهنية، إضافة للاهتمام باليافعين والشباب والأطفال، عبر تقديم نفسها- أي الدولة المضيفة – كراعية لهم ولأهاليهم، وتقديم كل ما يلزم لمشاركتهم بصورة فعّالة في بيئة العمل والتنمية.
د. درويش: القوانين الدولية راعت حقوق المغترب واللاجئ
إلّا أن الدول المُضيفة استخدمت اللاجئين كورقة سياسية لتحقيق مآربها في سورية
ما فعلته ألمانيا ليس وليد حدث معين أو نتيجة تقاطر أمواج الهجرة في السنوات الأخيرة، بل ضمن إطار استراتيجتها طويلة الأمد المتبعة منذ عقود لاستقطاب الشباب والكفاءات الجاهزة، لتغطية تبعات تناقص معدل النمو السكاني لديها وفق توصيف الدكتور فضلية للمشهد، عدا عن أن إعداد المهجرين للعمل قليل أو معدوم التكلفة مقارنةً مع تكلفة إعداد نظرائهم الألمان، إلّا أنه وبالرغم من كل ذلك، عانى وما زال يعاني المهاجرون في ألمانيا من ثلاثة أمور، الضغط والاستغلال المقصود وغير المقصود بحجة تمديد أو عدم تمديد تصاريح الإقامة وإطالة أو تقصير فترة منحها ومنح الجنسية، إلى جانب شبح الإبعاد القسري.
ضريبة الاغتراب
الكثير من العائلات تعاني انفصاماً عن الواقع وبكل مراحلها، كما نجد بأن مواثيق الأمم المتحدة نصّت على حقوق المغترب واللاجئ لكن نجدهم لا يعترفون بها أيضاً وفق تأكيدات الدكتور أوس درويش، فمثلاً عندما يأخذ اللاجئ صفة اللجوء، من المفترض وحسب القانون أن يُصرف له راتب كحد أدنى 400 يورو، في حين تم تخفيض المبلغ للنصف وهو زهيد جداً قياساً بتكاليف المعيشة في ألمانيا، فالقوانين الدولية راعت حق المغترب واللاجئ لكن للأسف اللاجئ السوري وبسبب الحرب يُعامل معاملة سيئة وتتم إعاقته بكافة الاتجاهات.
الباحثة بغدادي: التوعية بمخاطر الهجرة ضرورية للعائلات قبل الأفراد
فما يقدمه البلد المُقيم من تسهيلات تقابلها التزامات من قبل الشباب أنفسهم
تبعات سلبية حددتها مجموعة عوامل شخصية فردية وعلى مستويات عدة عائلية واجتماعية وثقافية وأخلاقية ودينية، تضاف لها تبعات أخرى على مستوى الوطن والهوية، شكلت الأهمية الكبرى للكثير من العائلات والشرائح السورية برأي فضلية، فالأمر مختلف، حيث إنه ومع وجود مستوى جيد المعيشة، نجد على المقلب الآخر معاناة حقيقية تؤثر في صميم وجدانهم، لعدم الرضا أو قبول تربية أبنائهم وأجيالهم القادمة ضمن بيئة ومحيط وموروث المجتمعات الغربية عموماً، التي عرفت للمجتمعات العربية بارتفاع مستوى الانهيار الأخلاقي والديني لديها، ما ولّد الكثير من مشاعر الحنين والرغبة بالعودة للكثير منهم إلى الوطن وإلى بيئته، أو للمجتمعات الأقرب لسورية مثل تركيا ومصر وغيرها من الدول العربية.
خسارة مزدوجة
الخاسر الأكبر مادياً ومعنوياً ونوعياً ضمن سياق هذا الحديث هو سورية كدولة ومجتمع واقتصاد وعلى جميع المستويات الأخرى برأي فضلية، عدا عن الخسائر الوطنية الكلية غير المادية التي تعد أضخم وأبعد وأعمق من كل ذلك، ولاسيّما على مستوى اللحمة الوطنية والاجتماعية والانتماء والنسب والذرية.
وهنا لا بدّ من التأكيد مجدداً، بأن تبعات اللجوء على الأغلب إيجابية للدول المضيفة، إلّا أن دول المنشأ والأصل هي الخاسرة في كل شيء، باستثناء إيجابية مزدوجة، أولها احتمال اغتناء البعض من أبنائها بالخارج، بما ينعكس تحويلات مالية رأسمالية أو معيشية، وثانيها اكتساب المعرفة والخبرات الأجنبية وتطبيقها في الوطن الأم في حال احتمال عودتهم، ولكن أيَّاً من الاحتمالات قد لا يحدث على أرض الواقع.
اقرأ أيضاً: