«ياس خضر» و«كريم العراقي».. الأصالةُ والمعاصرةُ وجهان لعملةٍ واحدةٍ

تشرين- سامر الشغري:
ظلت الأغنية العراقية ردحاً من الزمن محصورة في جمهور بلادها وما حوله، ولم تصل إلى الحيز الأوسع من الجمهور العربي، إلا عندما قيدت لها الأقدار نخبة من الأسماء أخذتها إلى الصدارة لتزاحم في الجماهيرية مثيلاتها في الشام ومصر والخليج، ومن هذه الأسماء الراحلان اللذان ودعانهما يوم الجمعة الماضية، المطرب ياس خضر والشاعر كريم العراقي.
عند دراسة تجربة هذين المبدعين سوف نجد البرهان العملي للنظرية التي تقول، إن الفنان ابن ظرفه وخلاصة مرحلته، ورغم أن لا فارق زمنياً كبيراً يفصل بينهما، لكنهما كانا شديدي التمايز على المستوى الإبداعي، لأن تجربتهما الشخصية نمت في ظروف متباينة، وشق كل منهما لنفسه طريقاً مختلفاً من الأصالة والحداثة.
ولعل من أبرز سمات تجربة خضر الذي ولد في مدينة النجف سنة 1938 يتيم الأب، التأثر لحد الانغماس بالغناء الريفي في بلاد الرافدين واتباع تقاليد المدرسة العراقية الأصيلة، من الميل للشجن والتصوير الحسي للبيئة ومفرداتها، وكانت الأغنية خلال تلك الفترة تتوجه للجمهور العراقي على وجه الخصوص.
ولدى بزوغ نجم خضر في ستينيات القرن الماضي صنفه نقاد الفن ضمن مطربي الريف، ولكنه سعى كثيراً إلى تقديم أغنية أكثر مدنية من أعماله الأولى التي اشتهر بها وحملت روح قرى دجلة والفرات مثل: «الهدل وأبو زركة مر بيكم حمد..» ، فغنى في السبعينيات: «تايبين ومسافرين وجذاب:، لكن طريقة الغناء عنده ظلت متأثرة ببيئته وبكونه بدأ حادياً في الحسينيات، كما كان جل الشعراء الذين غنى لهم من أبناء هذا الريف أمثال: طالب زامل وزهير الدجيلي، والذين جعلوا غناءه دائماً يدور ضمن هذه الحلقة.
ويحسب لياس خضر أنه غنى الكثير من قصائد الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب باللهجة العراقية المحكية ومنها (مرّينا بيكم حمد)، والتي عند تحليلها سنكتشف هذا الانغماس في بيئة العراق، بما تحفل به من مكونات البيئة وحياة الناس اليومية، إذ تقول كلماتها:
«مرّينا بيكم حمد، واحنا بقطار الليل
وسمعنا دكّ اكهوه..وشمّينا ريحة هيل».
ومن أغاني خضر الأخرى التي يجدر التوقف عندها، وتعد من أشهر أعماله أغنية «عزاز» التي كتبها زامل فتاح، ابن قرية الشطرة جنوب العراق، ولحنها طالب قره غولي، والتي تحملنا إلى أجواء نخيل الرافدين الباسق والقوارب المبحرة في ماء دجلة، وأنين الناي الذي يشتاق المحبوب. أما أكثر أغنية سعى من خلالها خضر للخروج من طابعه الريفي فهي (مرة واحدة) التي كتبها زهير الدجيلي، وهذه الأغنية وإن خلت من مفردات الريف العراقي، لكنها ظلت تحمل هوية أغنية بلاد الرافدين الأصيلة، لأن صوت خضر العملاق سمح للملحن طالب قره غولي أن يستعرض عضلاته في استخدام مقامات عراقية صميمية وصعبة من درجات المقامات الشرقية، مثل السوزناك والحسيني.
أما تجربة كريم العراقي فأخذت منحى مختلفاً تماماً، فهذا الشاعر الغنائي شديد الغزارة الذي ولد في مدينة بغداد سنة 1955 جاءت انطلاقته الحقيقية بعد حرب الخليج الأولى سنة 1991، واضطرار الكثير من المثقفين العراقيين إلى ترك وطنهم من جراء الحصار الاقتصادي والعقوبات وانهيار مستوى المعيشة.
لقد وجد كريم وعدد من نظرائه من المبدعين العراقيين أن جمهورهم لم يعد مقتصراً على أبناء جلدتهم كما في السابق، وأن عليهم بحكم إقامتهم بعيداً عن وطنهم أن يتوجهوا للجمهور الأوسع، وأن يخففوا من محليتهم، وظهر انعكاس ذلك على قصائد كريم المغناة والتي كانت المحاولة الأكثر نجاحاً للتخفيف من تغلغل البيئة العراقية في الأغنية، سواء عبر المفردات المستخدمة أو في مضمون النص والذي بدوره ترك أثره على أسلوب التلحين المتبع وطريقة الغناء.
ومن أحد دلائل توجه كريم لاستخدام لهجة مبسطة في كتابة الأغنية العراقية، أنه كان الشاعر الذي كتب النصوص التي لحنها الموسيقار المصري الراحل بليغ حمدي لسعدون جابر (لا رايد مراسيل، مشوارك أبد، أريدك، إحنا)، وهذه النصوص تتميز عن أغاني سعدون السابقة أن لغتها سلسة وواضحة بالنسبة للمستمعين في كل أقطار العرب، وهذه تحسب للشاعر كريم، أنه كتب لملحن مصري بلهجة بلاده وبصورة مفهومة، من دون أن يتجه لتمصير النص كما حصل عند شعراء لبنانيين وسوريين.
وكان تعاون كريم مع كاظم الساهر أحد المداميك التي بنى عليها الأخير نجوميته العربية، ولاسيما بعد انفضاض شراكته مع عزيز الرسام، ويمكن تتبع الخط البياني لهذا التعاون مع أغان مثل (خليتك إنت الحكم ثم لا تحرموني منه ثم سلامي)، إذ نلاحظ أن الأغنية غدت شيئاً فشيئاً أكثر طلاوة وسلاسة وقرباً من الجمهور العربي.

ولدى شعر كريم العراقي، واسمه الأصلي كريم عودة، ميزة إضافية في شعره العمودي، وهي قدرته الشديدة على محاكاة تجارب الغير، كما في قصيدة (لا تشك للناس) التي ظن الكثيرون أنها للشافعي، وقصيدة (كثر الحديث) وهي تحمل العديد من مواصفات وأسلوب نزار قباني، ولاسيما في الغزل المباشر والقصة الشعرية. وعلى ما في التجربة الفنية عند خضر وكريم من اختلاف وتمايز، فإنهما كانا كوجهي العملة، يتباينان، ولكنهما يكملان بعضهما، فأصالة ياس خضر وتمسكه بالهوية الفريدة للغناء العراقي، وحداثة كريم العراقي وتبسيطه هذا الغناء وتقديمه بأسلوب سلس للجماهير العربية، أعطتا مدرسة الغناء في بلادهما كل هذا التنوع، وهذا الكم من الجمال من دون أن تتخلى عن هويتها المحلية.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
شكل وبنية الاقتصاد الوطني بالمرحلة القادمة خلال ورشة حوارية في هيئة الاستثمار السورية أكثر من ألف حاج يومياً يغادر مطار دمشق إلى مطار جدة السعودي..وتأمين كافة متطلبات الحجاج وتسهيل أمورهم الخارجية: تكرار بعض الدول الغربية مواقفها السلبية أمام ما يسمى مؤتمر بروكسل يؤكد استمرارها في سياساتها الخاطئة تجاه سورية سورية تستنكر دعوة مؤتمر بروكسل لعدم عودة اللاجئين: كان الأجدى به تخصيص تمويل لدعم هذه العودة وتعزيز مشاريع التعافي المبكر توقيع اتفاقية بين وزارة السياحة ومجلس مدينة اللاذقية لإحداث حاضنة تراثية وسوق للمهن اليدوية يتمتع بطاقة إنتاجية واعدة.. وضع بئر جحار- ١٠١ الغازي بالإنتاج الرئيس الأسد يزور طهران ويقدم التعازي للسيد الخامنئي والرئيس المكلف مخبر باستشهاد رئيسي وعبد اللهيان تفقد أول مشروع تشاركي بين القطاعين العام والخاص في محطة دير علي الكهربائية.. المهندس عرنوس: التشاركية نهج إستراتيجي معتمد في سورية أسئلة القومية متنوعة والإجابة عن بعضها يتطلّب مهارات التحليل والاستنتاج والدقة إدارة أملاك الدولة على طاولة النقاش المشترك.. تعزيز الاستثمار الأمثل المدعوم بالتنظيم القانوني والحماية