كان يجلس بين الحضور، يستمع إلى قصة قصيرة يلقيها “أديب” وبعد أن سمع التصفيق والمديح والأسئلة التي طرحها بعضهم على الكاتب نهض وبيده ورقة كُتبت عليها كلماتٌ وأعداد! قال إن الكاتب استخدم فعلَ “كان” وتصريفاته ثلاث عشرة مرة، وأنه استخدم المضارع سبعَ مرات في صياغةٍ لا تحتمل الفعل الراهن في هذا السياق، ثم انتقل إلى “المشتقات” التي لم يستخدمها لكلمة “المطر” وهي متاحة في لغتنا العربية، حتى تكادَ تكتبُ قصيدةً كاملةً دون عناء لو أن هذا الكاتب اهتمّ بثقافته وقرأ كنوز الأدب العربي أو حتى أتى معاجمَها لمجرد الاطلاع والمعرفة!
أثار “الناقدُ” بلبلة في القاعة مصحوبةً بدهشة بعضِ الحضور، وهو بذاته كان قد طوى ذات يوم مجموعة قصصية للأطفال قائلاً: إنها فوق حصيلة الطفل اللغوية وسمعت جوابه باهتمامٍ عن سؤالي: من يحدّد الحصيلة اللغوية للقارئ؟ -أولاً التجربة التعليمية، وثانياً المحيط المعرفي والبيئة! الإحصاء ضروريٌّ للنجاح والتبليغ! ومن هذه “النقطة” أخذني إلى علمٍ هو بالمطلق وليدُ علم “الرياضيات” الذي نعرفه علمَ أرقام وعملياتٍ ذهنية صرف، وقد ازدهر عبر التاريخ لضرورات إحصاء السكان بمهنهم المختلفة وأعمارهم المنتِجة والمستهلكة، وربما كانت الحروب أقوى محرّك لهذا العلم فيما يتعلق بالجيوش لتزويدها بالطعام والسلاح وتعويض الفاقد منها، حتى إذا وصلنا إلى هذا العصر وجدناه حاضراً في كل مجال: السكان والتعليم والصحة والفنون والتسلح والتصويت في الانتخابات وكذلك في القضايا الدولية، وهو علم كما كل العلوم، له مبادئه ووسائله ومختصوه، أما ثماره فتقدمها مجالات لا تُحصى حين تأخذ البيانات وتحللها وتستخدمها على طريقتها وبمقتضى أهدافها المرجوة!
لم يكن “الناقد” الذي أحصى دوران المفردات ذات الإيحاء نفسه في بنية القصة متألياً على الكاتب لأنه فسّر ببراعة، غير ملحوظة، سبب الملل الذي أحدثه النص في السامعين، وكان محقاً في إجرائه ذلك الإحصاء الذي احتفظ به على الورقة، ليرشد أيّ كاتب إلى أن الإبداع يقتضي الوقوف على محيطٍ لغوي وليس على ساقية، واللغة ليست مفردات، بل صياغات أثراها تاريخ المعالجات الأدبية مكتوبةً أو شفوية، مثلها مثل الأعداد، التي تكون بلا معنى حتى تُستخدم في علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء، عدا أن “الحصيلة اللغوية” للطفل (وقد أتى على ذكرها في انتقاد مجموعة مكتوبة للأطفال) قد تحتاج إلى تأملات ورصدٍ دقيق يتخطى تجربتنا نحن الكبار الذين نتذكر معارفنا حين كنا أطفالاً ونحسب أنها حصيلةٌ لهذا الجيل، ولَكَم اختلفت أجيالٌ عن أجيال!