الخصوصية الحلبية تصطدم بقسوة الظرف الراهن… «مي فرنجي».. موسم نشط وحرفة تراثية يحولها الغلاء إلى أكلة الدراويش
تشرين – رحاب الإبراهيم:
لا تحتاج أن تأتي إلى مدينة حلب لتعرف ما هي الـ”مي فرنجي”، التي يمون منها كل بيت سوري، بتسمية مختلفة كالـ”عصير” أو دبس البندورة، إلا أن هذه “الأكلة” تمتلك خصوصيتها في العاصمة الاقتصادية، إذ باتت جزءاً من التراث الحلبي، فلا يقتصر استخدامها على إعداد الطبخات الحلبية الشهيرة بنكهتها الطيبة، فهي أيضاً رفيقة السهرات و”القعدات” الاجتماعية، حيث تحضر هذه الأكلة المشغولة على الأصول عبر دهن كمية قليلة منها على رغيف خبز بأي وقت، لكنها اليوم بعد موجة الغلاء الكاوية أصبحت أكلة “الدراويش” الذين يكتفون عند عدم وجود مستلزمات طبخة اليوم بتناولها وسد جوع بطونهم.
تخفيف كميات «المونة» إلى النصف..
في كل عام بين شهري تموز وآب رغم الحر الشديد، يبدأ أهالي حلب بإحضار العدة للبدء بموسم “مونة” الـ”مي فرنجي” كل حسب قدرته المادية، في طقوس تراثية ومعيشية خاصة، فموجة الغلاء لم تمنعهم من الاستغناء عن هذه الأكلة، لكنها تسببت في تقليل الكميات التي كانت كل عائلة تخزنها للموسم الشتوي، لتقصر بعض العائلات على خمسة كيلوغرامات فقط، بينما كانت سابقاً تصل إلى 25 كيلو وأكثر حسب عدد أفراد الأسرة، علماً أن انخفاض سعر البندورة هذا كان له دور كبير في زيادة كمياته مقارنة بالعام الفائت وخاصة أنها أصبحت تعتمد على هذه الأكلة في تأمين غذائها في حال عدم توافر ما يأكلونه خلال يومهم بسبب ارتفاع الأسعار الجنوني.
موسم نشط
تفضل ربات البيوت الحلبيات إعداد “مي فرنجي” منزلياً رغم الجهد الكبير الذي يستلزم تصنيعها، في وقت ترى الرجال في الأسواق يشترون البندورة بكميات كبيرة وإحضارها إلى البيوت لتتولى السيدات المهمة بعد ذلك، لذا بات طبيعياً مشاهدة البندورة المعصورة بكميات كبيرة على الأسطح بقصد تجفيفها ثم تعبأ بأدوات منزلية خاصة لهذا الغرض، لكن بالمقابل تشتري سيدات أخريات راحتهن ب”المصاري” كما يقال عبر الطلب من رجال البيت شراء البندورة وعصرها بآليات خاصة أوجدت لهذا الغرض في هذه الفترة بالذات، فباعتبار موسم صنع الـ«مي فرنجي» موسماً نشطاً ويشغل عدداً كبيراً من الأيدي العاملة لكن حضرت الآلة لتسهيل العمل وتقليل الوقت والجهد، وخاصة أن أهل حلب أهل إنتاج وعمل، فمن الطبيعي أن يستفيدوا من هذا الموسم وجعل هذه الحرفة التراثية تأخذ بعدها الاقتصادي والاجتماعي، مع التنويه هنا بأن من يشتري البندورة يظل واقفاً إلى حين انتهاء عمليات العصر والتعبئة بأكياس أو أوان بلاستيكية لمراقبة عملية العصر ومنع الغش.
عائلات كثيرة أسست مشروعات صغيرة تعتمد على «مي فرنجي» في التصنيع
المنطقة الأكثر شهرة
“تشرين” قصدت منطقة الكلاسة، التي تعد المنطقة الأكثر شهرة بإعداد وتصنيع الـ”مي فرنجي” وخاصة في مراحلها الأولى من مرحلة شراء البندورة إلى عصرها وبيعها للمواطنين الذين يتفقون مع باعة البندورة على شراء كميات معينة من البندورة منهم، وبعدها يتم عصرها في آلة بالمكان نفسه، ثم تعبأ البندورة المعصورة بأكياس نايلون أو أدوات بلاستيكية وأخذها إلى البيت لنشرها على الأسطح بقصد التجفيف.
ويروي البائع حسن دحا من منطقة الكلاسة، الذي يقصده مواطنون كثر لشراء البندورة وعصرها في الآلة الخاصة بذلك، كيف يشتري البندورة كل يوم من منطقة السفيرة ويعرضها أمام محله في الكلاسة، ليشتري الزبائن حاجتهم من البندورة بعد اختيارها بعناية، ثم تعصر بوجود من اشتراها، وتعبأ بأكياس أو أوان بلاستيكية يحضرها الزبائن معهم، مشيراً إلى أن كل 100 كيلو بندورة تقريباً تنتج عنها 10 كيلو ماء يأخذها المواطن وينشرها على الأسطح لتصبح بعد تجفيفها رب بندورة تستخدم للطبخ والأكل حسب ما اعتاد أهل حلب.
اتحاد الحرفيين يطالب بالمشاركة في مراقبة أسواق هذا المنتج
الغلاء يحكم
“تشرين” التقت أيضاً عدداً من المواطنين أثناء شراء البندورة من أجل صنع الـ”مي فرنجي”، وتحدثوا لنا كيف أثر الغلاء في إعداد «مونة» هذه الأكلة التراثية المعروفة، ففي السابق كانت كل عائلة تشتري كميات أكبر لكونها تعد أساسية في المطبخ الحلبي، لكن اليوم اختصرت الكميات إلى النصف والربع حتى عند بعض العائلات، وهو ما يشير إليه الرجل الستيني محمود مصري الذي اشترى 325 كليو بندورة ستنتج عنها 30 كيلو «مي فرنجي» للشتوية، فيقول: عائلتي كبيرة، ولا يمكن تخفيض كميات الـ«مي فرنجي» أكثر من ذلك رغم الغلاء، فاليوم باتت هذه الأكلة أكلة الدراويش، فحينما لا نجد ما نأكله ندهن «المي فرنجي» على رغيف الخبز ونأكله ونسكت جوعنا”.
هذا الواقع يؤكده المواطن بكري قصير الذي أشار إلى أن عائلته مؤلفة من سبعة أفراد، وبالتالي رغم ارتفاع أسعار «مي فرنجي» مقارنة بالسنوات السابقة وخاصة مع الغلاء الحاصل، يحاول الحفاظ على شراء الكميات ذاتها وخاصة أن البندورة هذا العام أرخص من العام الفائت، حيث نعتمد على هذه الأكلة الشعبية في الشتاء في ظل عدم التمكن من شراء طبخة اليوم، لكن بالمطلق تسبب الغلاء في انخفاض الكميات التي تعدها الأسر الحلبية، إذ كانت كل أسر تمون كميات كبيرة خلال هذا الموسم.
مشروعات صغيرة
موسم إعداد الـ”مي فرنجي” يمثل تقليداً وتراثاً عند أهالي حلب منذ عقود طويلة، ونظراً لذلك وخاصة أن وجوده في كل بيت حلبي أصبح ضرورة معيشية، فإنه تحول إلى مهنة احترفها عدد من سيدات البيوت وحتى الرجال لتكون بمنزلة مشروعات صغيرة تعتاش منها عائلات كثيرة، وهو ما ترويه لـ”تشرين” أم سلام زوجة الزميل الصحفي محمد حنورة، اللذين أسسا مشروعاً صغيراً لإعداد كل مستلزمات «المونة» والمطبخ الحلبي منزلياً، ومنها رب البندورة، حيث شرحت كيف يصنع «مي فرنجي » منزلياً، واختلاف تصنيعه عن المشغول تجارياً، والذي يحوي على نسبة من الغش بسبب إصرار من يتاجر به على إبقاء نسبة كبيرة من الماء فيه لتحصيل أرباح أكبر، لكن المشغول منزلياً بالمطلق يبتعد على الغش ويشغل على الأصول مع نظافة كاملة بالتصنيع، وهذا يؤكده بقاء هذه الأكلة فترة طويلة صالحة للأكل من دون تلف على عكس التجاري، لذا يبقى سعره أعلى من سعر السوق، فيباع حسب تصنيفه بين نخب أول وثان وثالث بين 12-18 ألف ليرة تقريباً للكيلو الواحد.
20- 30% نسبة انخفاض تصنيعها عن السنوات السابقة رغم انخفاض سعر البندورة عن العام الفائت
ولفتت (أم سلام) إلى وجود نوعين من البندورة تستخدم في صنع “مي فرنجي” منها البندورة البلدية “وهي ذات لون أحمر وطمعها حلو لكنها تنتج كمية أقل من النوع الثاني وهي البندورة الفرنسية، إذ ينتج عن كل 100 كيلو بندورة 9-10 كيلو عصير رب البندورة، أما الصنف الفرنسي، المتميز بحموضته، فكل 100 كيلو بندورة ينتج عنه 12 كيلو، لذا نعمد للحصول على طعم لذيذ وشكل جميل إلى خلط 700 كيلو من البندورة البلدية مع 300 كيلو من الفرنسي.
أكلة الدراويش
ولفتت «أم سلام» إلى أن انخفاض سعر البندورة ساهم في زيادة الطلب على صنع الـ”مي فرنجي”، وذلك مرده إلى اعتماد الفلاحين في الأرياف على الطاقة الشمسية، حيث انخفضت أسعارها مقارنة في العام الفائت إلى النصف تقريباً، وهنا يمكن القول إن الله تلطف بالمواطن، فلو بيعت البندورة مثل العام الفائت لما تمكن من شراء سوى كمية قليلة جداً من «مي فرنجي»، التي لا يمكن الاستغناء عنها إطلاقاً في ظل هذا الغلاء، إذا تعد اليوم أكلة الفقراء، فإذا شعر أفراد العائلة بالجوع يدهن كمية قليلة منها على رغيف الخبز ويأكله، فالعائلات لم تعد كالسابق قادرة على شراء الزعتر وزيت الزيتون بعد وصول أسعارها إلى أرقام فلكية، لذا يمكن الحل بهذه الأكلة البسيطة.
خالية من الغش
وعن الغش في إعداد رب البندورة، أكدت “أم سلام” أن المشروعات الصغيرة التي تعتمد على أعداد المنتجات اليدوية لا مصلحة لها بالغش أياً كانت الأرباح المحققة كيلا تخسر زبائنها، لكن المنتجات التجارية المعروضة في السوق تحتوي على نسبة غش معينة لعدم تجفيف رب البندورة بشكل كامل وبقاء نسبة من الماء تعرضه بسرعة للتلف، نافية إضافة البطاطا المسلوقة إلى هذا المنتج وخاصة أن البطاطا مرتفعة الثمن بحيث تكلف كثيراً لمن يصنع رب البندورة مع أن إضافة البطاطا مشروع عملياً للمحافظة على طراوة المنتج وحفظه بدليل أن معامل الكونسروة تستخدمه عند تصنيع هذا المنتج المطلوب.
وأنهت حديثها بتأكيد أن مشروعها الصغير الذي تعتاش عائلتها منه تأثر عموماً بغلاء المواد الأولية وأجور العمال ومستلزمات الإنتاج كالمحروقات لزوم تشغيل المولدة لأعداد المنتجات والسلع يدوياَ.
حسب الجودة والزبون
تأثير الغلاء في رفع أسعار “مي فرنجي” وغيرها من منتجات «المونة» المصنع يدوياً أكدته خيرات حلاق، التي تصنع هذا المنتج وغيره في البيت لتأمين قوت عائلتها، فهي تعمل في هذه المهنة منذ قرابة 15 عاماً حينما توفي زوجها وترك وراءه خمسة أطفال أصبحوا شباباً الآن، مشيرة إلى صعوبات في عملية التصنيع بعد موجة الغلاء الكبيرة التي أثرت في الجميع، لكنها مستمرة في هذا العمل لأنه لا خيار لديها غيره.
ولفتت إلى وجود زبائن معينين يشترون من منتجاتها المصنعة يدوياً لكونهم يثقون بنوعيتها وجودتها، لكنها عمدت حالياَ إلى تسويق منتجاتها عبر «النت » من أجل تأمين قوت يومها بعد ارتفاع تكاليف المعيشة، مبينة أن سعر «مي فرنجي» يتراوح بين 18-23 ألف ليرة نظراً لجودتها وطعمها اللذيذ الذي يختلف بالمطلق عن شغل السوق التجاري، لكنها تراعي العائلات الفقيرة في السعر، فلابد حسب رأيها في هذه الظروف الصعبة مساعدة بعضنا للخروج من الأزمة الحالية، لكنها بالمقابل ترى أنه يمكن تعويض ذلك في حال قدوم عائلات ميسورة الحال لا تكترث بهذه الأسعار، التي تجدها منخفضة نسبياً.
«على الأصول»
كما التقت “تشرين” أحد المزارعين في منطقة السفيرة، المشهورة بإنتاج البندورة، ما جعل الأهالي يشتغلون بهذه المهنة ويصنعون رب البندورة وبيعه في أسواق حلب بكميات كبيرة، إضافة إلى المساهمة في توزيعه على العائلات الفقيرة المحتاجة والتي لا تقدر على تموين «مي فرنجي» بسبب ارتفاع أسعارها مقارنة بسنوات قبل الأزمة، حيث يؤكد أحمد الحسن، الذي يوصف بشيخ كار هذا الموسم، أنه يصنع كل موسم 40-50 طناً تقريباً من «مي فرنجي» خالية من الغش، لذا هي مطلوبة بدرجة كبيرة لكونها مصنوعة على الأصول وتبقى أطيب من المعلبات التي حلقت أسعارها عالياً، مشيراً إلى بيعه بين 10-20 ألف ليرة حسب تصنيع المنتج ونوعيته.
“تشرين” قصدت اتحاد الحرفيين المسؤول عملياً عن تسعير وتصنيع “مي فرنجي” ومراقبة تصنيعه وطرق غشه، حيث أكد أمين سر الجمعية الغذائية عبد الرحيم أبو مغارة أنه لا يوجد دور فعلي لاتحاد الحرفيين في تسعيرة «المي الفرنجي» ومراقبة تصنيعها وغشها مع أنه يفترض أن يكون له الدور الأكبر في ذلك، حيث تتولى مديرتا التجارة الداخلية والشؤون الصحية هذا الأمر، مطالباَ بإشراك الاتحاد بذلك لكونه الأقدر على القيام بهذه المهمة.
وأشار أبو مغارة إلى انخفاض تصنيعها عن السنوات السابقة رغم انخفاض سعر البندورة عن العام الفائت، حيث بلغت نسبة الانخفاض 20-30% عن الأعوام السابقة، لافتاً إلى صعوبة استغناء الأسرة عن هذه الأكلة الشعبية البسيطة وخاصة في ظل هذا الغلاء الكبير، حيث تلجأ الأسرة الفقيرة إلى تناولها في حال عدم وجود ما تأكله أو عند الصعوبة في تأمين طبخة اليوم.
ت – صهيب عمراية