«الهايكو»… طوفانُ البساطة ومحاولات التحرّر من أقفاص الشكل

تشرين- حنان علي:
عبقريةُ الشِعر الياباني؛ الهايكو.. شِعرٌ مركبٌ ومثير للذكرى والعاطفة، اختراقٌ مباشر ومتصل بالإحساس بالطبيعة وماهية الحياة البسيطة والمحيرة في آن معاً.. اختزالٌ للوجود بشذراتٍ تقتنص الزمان والمكان دفعةً واحدة، أو لعله تصورٌ فلسفي ببساطة مطلقة وجمالية روحية مكثفة.
ما برح الهايكو انسيابُ طوفانٍ من المشاعر على مساحةٍ بسيطةٍ من الورق.
«في أوقيانوس ليلةِ السماء
تمر أمواجُ السحاب
وفوقها
سفينة القمر
إني أراها راحلة
في غابةِ النجوم
هيتومارو
يكمن جوهر فكرة الهايكو في لحظة الاستنارة اللاحقة للاضطراب والتمزق وانقسام الوجود إلى ذاتٍ وموضوع.. وفي الومضة التي يشرق فيها نورُ اكتشاف الإنسان لكينونته العميقة في هذا الكون.. يرافق الهايكو في الثقافة اليابانية شروطاً وانتصارات وهزائم، وله امتداد في لغات العالم الأخرى مثل العربية و الإسبانية والهنغارية والإنكليزية والألمانية… يندرج الهايكو في سبعة عشر مقطعاً تتوزع على ثلاثة سطور : خمسة مقاطع ، سبعة مقاطع ، خمسة مقاطع.. وكل مقطع يشكّل وحدة شعرية بذاته أي قصيدة بثلاثة أبيات فقط.. ومدة ترتيلها لا تتجاوز مدّة النَّفس الواحد.
تبقى مفردات الطبيعة المتنوعة مفردات الهايكو العريقة التي يُمرر بها الشاعر رؤاه عن الحياة وما يعتريها من تغير أو تبدل، وليس بوسعنا سوى التوقف برهة أمام ما يخلقه الهايكو من دهشة وقدرة على المقاربة ورؤية العالم بمنظارٍ عميق وطويل المدى ..
«عيناه تدمع لصراخها
الإوزات البرية وهي تبكي رحيلها
عندما ينشر فجرُ الربيع
ألوانه عبر السماء
من يسمعها
عيناه تدمع لصراخها.
– فوجيوارا شنزاى»
يعود أصل الهايكو إلى نوع آخر من الشعر الياباني القديم في «القرن السابع عشر» هو الرنكا الذي انتشر في البداية بين الأوساط المثقفة والحاكمة بفضل «باشو»، المعلم الأول لهذا الفن بلا منازع.. ليتطور هذا النمط الشعري خلال «القرن السابع عشر» وصولاً للقرن « الثامن عشر» ليمسي فناً حقيقياً يضفي نوعاً من الفخامة على المجالس الأدبية لكبار الدولة وحاشيتها المثقفة.. وسمي بـ«هائيكائي نورنكا» أو «شعر الترفيه»، لينتشر بعدها في أوساط طبقات المجتمع كشعرٍ شعبيّ يختص بالتراث الياباني وحده بعدما أُسقطت الأبيات الثان، واختُصر إلى بيت واحد أساسي.
وفي نهاية القرن التاسع عشر أطلق ماسوكا شيكي عليه اسم هايكو( Haiku).. يعدّ ماتسو باشو (1644-1694)من أشهر شعراء الهايكو: سيد شعر الهايكو، وأعمال باشو معروفة ببساطتها وعمقها؛ أما يوسا بوسون (1716-1783): فكان رساماً وشاعراً، قام بتوسيع موضوع الهايكو إلى ما هو أبعد من الطبيعة، وعلى الأغلب يحتوي الهايكو الخاص به على صور حية وخيالية.. ليأتي كوباياشي إيسى (1763-1828): المعروف بأسلوبه الرحيم وروح الدعابة، وعلى الأغلب عكس هايكو إيسى المشاعر الإنسانية وطبيعة الحياة العابرة والتعاطف مع جميع الكائنات الحية.. أما تحديث الهايكو وإدخال تقنيات جديدة فينسب إلى ماسوكا شيكي (1867-1902) إذ دافع عن الهايكو كشكل متميز من الشعر، وشدد على أهمية التفاصيل الحسية والملاحظة المباشرة.
هؤلاء الشعراء ساهموا من بين آخرين في تطوير شعر الهايكو وشعبيته في اليابان وفي جميع أنحاء العالم.. حتى بات نمط الهايكو في النصف الثاني من القرن العشرين ظاهرة شعرية عالمية، متصدراً مجلات مكرسة لهذا النوع من الشعر إضافة إلى المؤلفات والترجمات والدراسات النقدية.. أما في الوطن العربي فتقتصر المعرفة بشعر الهايكو على أوساط الأدباء والكتاب، و ظهرت ترجمات متناثرة عنه في بعض الكتب و المجلات والصحف العربية أبرزها كتاب: الهايكو الياباني، وسفينة الموت ديوان الشعر الياباني الحديث حوارات و قصائد للشاعر محمد عضيمة عرّاب هذا النوع الشعري في العالم العربي، وهو الشاعر السوري المقيم في اليابان ويدرّس في جامعة طوكيو..

جمال الهايكو وشعبيته لم ينجوا من الجدل والنقاشات أبرزها الهيكل وعدد المقاطع الصوتية، وحول ضرورة التمسك بصرامة بهذه الهيكلية في اللغات غير اليابانية.. كذلك الحال بالنسبة للإشارات الموسمية: إذ يتضمن الهايكو التقليدي على الأغلبً إشارة إلى فصل محدد أو الطبيعة، المعروفة باسم «كيغو».. ومع ذلك، هناك جدل حول ما إذا كان يجب الحفاظ على هذا المتطلب في الهايكو الحديث.. أما فيما يخص الاستعارة الثقافية فأشعلت مخاوف بشأن تشويه ثقافة اليابان. يقول البعض إن الكتاب غير اليابانيين يجب أن يتعاملوا مع الهايكو باحترام وفهم لأصوله، في حين يعتقد آخرون أنه يمكن تكييف الهايكو واعتماده من قبل ثقافات مختلفة. مابرح النقاش جائلاً حول ما يجعل الهايكو فعالًا وذا معنى، إذ يقول البعض بوجوب الطبقة الأعمق من المعنى، في حين يعتقد آخرون أن البساطة والمباشرة هما جوهر الهايكو.. جدليات تعكس الطبيعة المتطورة للهايكو؛ إذ يستمر في استكشافه وتفسيره من قبل الشعراء في ثقافات ولغات مختلفة..
ونختتم بقول يوسا بوسون «:لغة الهايكو المثالية هي لغة المألوف بمنهج تجاوز المألوف، وهو أشد».

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
في ذكرى تأسيس وزارة الثقافة الـ 66.. انطلاق أيام الثقافة السورية "الثقافة رسالة حياة" على سيرة إعفاء مدير عام الكابلات... حكايا فساد مريرة في قطاع «خصوصي» لا عام ولا خاص تعزيز ثقافة الشكوى وإلغاء عقوبة السجن ورفع الغرامات المالية.. أبرز مداخلات الجلسة الثانية من جلسات الحوار حول تعديل قانون حماية المستهلك في حماة شكلت لجنة لاقتراح إطار تمويلي مناسب... ورشة تمويل المشروعات متناهية الصغر ‏والصغيرة تصدر توصياتها السفير آلا: سورية تؤكد دعمها للعراق الشقيق ورفضها مزاعم كيان الاحتلال الإسرائيلي لشنّ عدوان عليه سورية تؤكد أن النهج العدائي للولايات المتحدة الأمريكية سيأخذ العالم إلى خطر اندلاع حرب نووية يدفع ثمنها الجميع مناقشة تعديل قانون الشركات في الجلسة الحوارية الثانية في حمص إغلاق الموانئ التجارية والصيد بوجه ‏الملاحة البحرية.. بسبب سوء الأحوال الجوية صباغ يلتقي بيدرسون والمباحثات تتناول الأوضاع في المنطقة والتسهيلات المقدمة للوافدين من لبنان توصيات بتبسيط إجراءات تأسيس الشركات وتفعيل نافذة الاستثمار في الحوار التمويني بدرعا