«غازي الدادا»… صحفيٌّ زاهدٌ يرتحلُ بصمتٍ
تشرين- محي الدين المحمد:
كل شيء في شخصيّته يحتاج إلى تحليل رغم بساطته ووضوحه….كلّ الغموض الذي تتوقعه في شخصية الصحفي غازي الدادا ينجلى بعد ربع ساعة من جلسة نختلسها من زحمة العمل الليلي في جريدة «تشرين» …يحترم كلّ زملائه، ويثق بهم في كل شيء إلا في اعتماد الصفحات الليزرية والموافقة على الطباعة من قبل مدير التحرير ورئيس التحرير.
الجميع يغادر مبنى الجريدة في منتصف الليل، ويبقى غازي الدادا ليتابع عمليات الطباعة …لكن، ليس قبل أن يعيد معظم ما قرأه مفاصل التحرير…عمل محرراً مناوباً عشرات السنين، وأصبح رئيس دائرة الأخبار، ومن ثمّ أمين تحرير الشؤون السياسيّة لكن التصاقه وإتقانه المهنة واهتمامه بما سينشر حوّله إلى زاهد صحفي، يسهر حتى ساعات الفجر الأولى، وبعدها ينام حتى العصر، لتبدأ رحلة اليوم الثاني ..لا وقت لديه للاجتماعات، وأعتقد أنه لم يحضر اجتماعاً حتى لو كان مع الوزير على عكس كلّ مفاصل التحرير، وكان الجميع يسوّغ غيابه.
قليلُ الكلام، يعمل بصمتٍ ومهنيّة…لم يتزوج لأسباب كثيرة، قد نجهلها لكن قد يكون غرقه في العمل الصحفي اليومي أحد الأسباب…لم يفتش عن الشهرة، ولم يبحث عن المال، وكان همّه الأول أن يُرضي ضميره المهني، وأن يدقق كل ما سينشر، لأن الكلمة بعد النشر لا تستطيع أن تبطل مفاعيلها.
أحد المسؤولين المهمّين والضالعين في العمل الإعلامي يأتي ثائراً ومحتجاً …كيف تغيرون أو تحذفون مما أكتب؟ وأنا لا أقبل أصلاً أن تخضع كتاباتي للتدقيق والتمحيص…كان الجميع يتبرأ من المسؤولية إلا غازي الدادا الذي قال له أنا لا أستطيع القبول بكل ما تجود به قريحة أحد …بإمكانك أن تعفيني من مسؤولياتي، لكن لا أقبل أن يشكك أحد في مهنيتي، وأعتقد ان ما أفعله لا ينقص من قيمة ما تكتبه أنت أو غيرك.
غازي الدادا رحل بصمتٍ تماماً كما عاش بهدوء…لم يدخل في تحالفات، ولم يمسح جوخاً لأحد، ولم يذهب إلى مكتب مدير أو وزير، وكان الجميع يعلم أنه أهلٌ لتحمّل المسؤولية.
على الصعيد الشخصي، كان محبّاً متعاوناً مع الجميع، لا يتسرّع في اتخاذ المواقف يصغي للآخرين حتى النهاية، ويختار إجاباته بدقة .
رحل غازي الدادا مخلفاً وراءه سمعةً طيبة وتاريخاً من العمل الجاد والمخلص بعد ثلاث سنوات من التقاعد ودخوله في فراغ الحياة بعد أن توقفت طباعة الصحف، ولم يعد غازي الدادا يستنشق عبير الحبر قبل أن يجفّ على ورق الصحيفة.
الرحمة لروحه الطاهرة ولنفسه الأبيّة والصبر والسلوان لأهله وزملائه ومحبيه ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.