ما الذي تخسرهُ الإذاعاتُ اليومَ وتكسبه «السوشال ميديا»؟!
تشرين- جواد ديوب:
باتَ للكثير من الإذاعات الرسمية والخاصة صفحاتٌ إلكترونية على الفيسبوك أو قنوات على التيلغرام، تنشرُ عبرها مشاهدَ مصورة لبرامجها الحوارية أو نشرات الأخبار أو تلك الحلقات «المسلّية» مثل الأبراج وفنون الطاقة الإيجابية وأحاديث التنمية البشرية و«صور» نجمات الدراما…إلخ، حيث بتنا اليوم -نحنُ الجماهير الغفورة- نرى أولاً، ثم نسمَعُ تالياً ما «يُعرَضُ» أمامنا على شاشات موبايلاتنا الأثيرة… في حين كنا -زمنَ البث الإذاعي الذهبي- نضعُ الراديو على رفوف المطبخ أو طاولة الدراسة أو تضعه العاشقات إلى جوارهن قبل النوم، أو يركنه أجدادنا في حضنهم وقت السهرات اللطيفة في القرى… وكنا نشردُ مع أفكارنا مستمتعين بصوت المذيع والمذيعة والضيوف وممثلي الدراما الإذاعية، محاولينَ تتبّعَ نبراتِ الأصوات ونغماتِ الموسيقا وحتى «خشخشات» المؤثرات الصوتية… لنركّبَ في خيالنا صورَ الوجوه التي تتحدث إلينا من خلف ضباب هذا الجهاز السحري، وسارحينَ في ضحكة المذيعة أو رخامةِ صوت المطربين، كما لو أننا في تواطؤٍ متبادلٍ غيرِ معلن مع «شخوصِ الراديو» أولئك الذين كانوا يعرفون كيف يفيّقوا فينا الحنين إلى ضمّةِ عشاقٍ آخرَ الليل، أو لصوتٍ غائبٍ يصلُ القلبَ قبل زمنٍ طويل من معرفتنا لشكلِ وجه صاحبه أو صاحبة الصوت!
كأنّ تلك الجماليات كلها تخسرُها الإذاعاتُ اليوم حين تعرض لنا ما ذكرت على شكل بوستاتٍ مصوّرة بحجة «التماشي» مع «موضة» السوشال ميديا التي ربما ربحت جمهوراً إضافياً ومعجبين يُحصَونَ بعدد «اللايكات» وكمِّ التعليقات والتعليقات المضادة… لكنها خسرت -بالتأكيد- جمالياتها في خلق تلك الفسحة المؤثرة من الخيال الممتع!
خلطة عجائبية!
هذا إضافة إلى الخلطة العجيبة الغريبة التي باتت تقدمها لنا بعض الإذاعات الخاصة في سورية، فبعضها يخلطُ «عبّاس» الأخبار السياسية على «دبّاس» الأبراج والتنجيم، مع خردل النكت السمجة التي يطلقها المذيعون والمذيعات بضحكاتٍ مجلجلة من اعتقادهم بأن كثرة الضحك سوفَ تزيدُ عدد المتابعين والمستمعين… إضافة إلى الكوارث اللغوية التي يرتكبها مقدّمو النشرات والمذيعون ومقدّمات البرامج الثقافية والفنية والموسيقية كأنّ اللغة العربية الفصحى باتت مذمومة وملعونة، وباتَ من يقاربها «دَقّةً» قديمةً لا تتناسب مع «حداثة» الموضة ومعنى المُعاصَرَة وتقلّبات طقوس التقنيات العالمية!
خساراتٌ إضافية!
إنّ ما تخسرَهُ الإذاعات بهذه السطحية في الأداء، وضحالةِ التفكير، ولهاثِ اللحاقِ بعوالم الغبش الأزرق/الفيسبوكيّ، يجعلني أفكر بالخسارات التي تلحق أيضاً بالدراما السورية حين تنقلُ لنا الحكاية/النص بتقنياتٍ سينمائية باهرة و«فانتازياتٍ» إخراجية مستجلَبَة من عوالم «السوشال ميديا» غِيرةً منها… ناسيةً أن الحكاية/النص الدرامي هو –في رأيي الشخصي- «إذاعةٌ مصوّرة» وليس فقط «صورةً متلفزة»… بمعنى أنها تنسى التركيزعلى جماليات منطوق الممثلين وأصواتهم المعجونة بالأداء المسرحيّ العظيم، ورخامةِ نبراتهم التي كنّا نكاد «نراها» كما لو أنها «شيء يمكنُ لمسه» لشدة نقاوتها وحلاوتها وصداها في أسماعنا!
يُضاف إلى ذلك كله أن وجود بعض الإذاعات الخاصة مكّنَ من الترويج لأغنيات هابطة وزاعقة، وسهّلَ الانفتاح على موضوعات خارجة عن المألوف، لكنها تقدم بشكل غير مدروس ومن دون إعدادٍ جيد، حسبَ رغبة أصحاب رأس المال المؤسس وفكرِهِ الباحث عن الربح المادي أو لنشرِ فكر معيّن قد لا يجد له منفذاً في الإعلام الرسمي… وهذا يفتحُ سؤالاً مهماً: هل بقي اليوم مَن يريدُ فعلاً أن يستثمرَ في أمور الثقافة والمبادئ والأخلاق والفن الجميل… في زمن الانهيارات والحروب والربح المشبوه؟!