«نيتشه مكافحاً ضدَّ عصره».. كيف تحوَّل الفيلسوفُ إلى مطرقةٍ؟!

تشرين- بديع صنيج:

رغم عديد المُفكرين والفلاسفة الذين تناولوا شخصية وفِكر الفيلسوفِ الألمانيِّ «فريدريك نيتشه» (1844-1900) لكنّ تلميذه «رودولف شتاينر» (1861-1925) الفيلسوف والمُفكر النمساوي والناقد الثقافيّ يعدّ من أبرزهم، ولعل أكثر ما يدل على ذلك هو كتابه «نيتشه مكافحاً ضدَّ عصره» الصادر عن دار «فواصل» والذي يكثِّف من خلاله رؤيته لأستاذه الذي فكَّك كلَّ القِيَم السائدة، حتى بات منبوذاً من عصرهِ ورسول ما بعده.

وساهمت مقدمة المترجم «حسن صقر» في تكوين الحاضن الفكري والاجتماعي والنفسي لفهم شخصية «نيتشه» حياتياً وفلسفياً، ولاسيما من ناحية نبذه كل الأصنام والقيم المقدسة، ودعوته ليكون إنكار جميع الحقائق هو السبيل الأمثل للتفكير القويم وبناء الثقة مع تلاميذه، أليس هو القائل على لسان «زرادشت»: «انبذوني تجدوني»، وبعدها اتجه لتحطيم جميع المُسلَّمات، وإعادة التفكير فيها، منتقلاً من مُجرد اتباعها الأعمى، إلى تدميرها من أساسها، وهو ما عرف بالعدمية، وصولاً إلى مرحلة «الإنسان الأعلى» القادر على «بناء ما دمَّره الفكر العدمي» من خلال النَّقد.

ويشرح الكتاب كيف أن «نيتشه» يحاول أن يصيغ من عدميته وجوداً أمثل، يسعى فيه إلى الحقيقة من دون اللجوء إلى عوالم ما ورائية، أو معتقداتٍ وقِيَمٍ دينية، معتبراً أنها تحدُّ من الإرادة المعرفية والارتقاءِ نحو القِيَم السامية.. يقول: «ليستْ هناك مسلمّاتٌ أبديّة، وليستْ هناك حقائق مطلقة»، مبيناً أن «الإنسان الحُرّ لا يُصدِّق الحقائقَ، بل يصنعها»، دافعاً تلاميذه إلى نبذه وعدم تقديسه بالقول: «أفضل أن تعدّوني مهرجاً على أن تعدّوني قديساً»..

ويرسم «رودولف شتاينر» ملامح شخصيةِ «نيتشه» عبر علاقته مع الآخر، وكيف تجلّى ذلك من خلال كتاباته التي حوَّلته حسب تعبير البعض إلى «مطرقة فلسفة»، أو إلى «علبة ديناميت فلسفية» كما وصف نفسه ذات مرة، خاصةً أن طموحه هو «أن يقول في جمل عشر ما يقوله الآخرون في كتاب كامل، أو بكلمة أكثر صواباً ما لا يستطيعه الآخرون في كتاب بأكمله»، وذلك بغية الوصول إلى «الإنسان الأعلى» الذي تتكوّن حكمتُه عبر تجريد نفسه من كل الأفكار الماورائية، مع عدم تحقير الجسد في سبيل إرضاء الروح، فالإنسان هو مُنطلق ذاته، ومحور وجوده، وبذلك فقط يمتلك «إرادة القوة» التي استفاض «نيتشه» في شرحها، وجعلته بالنسبة لكثيرين عنصرياً أو مرجعاً للأنظمة الفاشية والتيارات العرقية ولاسيما النازية منها، لكن في المقابل ينقض دارسوه والباحثون لأعماله هذه الادِّعاءات، من خلال التأكيد على وجود الإنسان القوي والإنسان الضعيف، هذا الأخير الذي يترك آثاراً سلبية على المجتمع والحضارة، وتالياً ليس بالإمكان المساواة بين البشر، فـ«هناك دائماً مُبدعون وكسالى، وإرادة القوة تختلف بين الأنموذجين؛ فإمّا أن تكون قاسية تلتزم بالجبروت، وإمّا أن تكون ضعيفة تلتزم بالشفقة واستلاب الذات» حسب تعبير «شتاينر» الذي يضيف: «يرى نيتشه في السلوك البشري استجابة لسلطة الغرائز. ولأن هذه الغرائز مختلفة لدى الأفراد المختلفين؛ لذلك فهو يرى أنه من الضروري أن تكون أساليب السلوك لدى البشر مختلفة، ومن هنا فهو يعدّ بحق خصماً عنيداً للمبدأ الديمقراطي؛ بمعنى حقوق متساوية، وواجبات متساوية للجميع، الناس حسب نيتشه غير متساوين، ولهذا فإن حقوقهم وواجباتهم يجب ألا تكون متساوية».

كما يبحث الكتاب في فكرة «التطوُّر ومساره لدى نيتشه» ابتداءً من الإغريق وكيفية ولادة التراجيديا عندهم، انطلاقاً من شعورهم المأسوي العميق الذي أنشأ لديهم نزوعاً للبحث عن تسويغ الوجود، فكان لهم ذلك في عالم الآلهة والفن، وهنا وجد «نيتشه» أن الفن له قوة تدفع الحياة نحو الأعلى، بينما استنكر الاتكاء على الأفكار المنطقية المحكومة بالقوانين التي تبقى تحت سيطرة العقل، وهو ما جعله يعدّ الفكر السقراطي الذي نادى بخلود العقل بعد الموت هو المسمار الأول في نعش الثقافة الإغريقية، ومثله أيضاً استخدام التاريخ بشكل متزمِّت يمنع إبداع أي فكرة جديدة، فـ«على الإنسان أن يتعلم قبل كل شيء أن يعيش، وألا يستخدم التاريخ إلا لمصلحة الحياة التي تعلمها» حسب «نيتشه» ذاته.

ويوضح مؤلف الكتاب كيف تحرّر معلِّمه من فلسفة «شوبنهاور» في عمله «إنسان مفرط بإنسانيته» بعد أن تخلى عن كل الأسباب فوق الطبيعية لتفسير الطبيعة، ملتزماً بالواقع، يبدع من خلاله بعد أن أسقط كل قوة عُليا أو أسباب ميتافيزيقية أو سلوكيات بشرية لا تنبع من الطبيعة والغريزة الواقعية في سيرورة التاريخ.

أما في تبويبة «فلسفة نيتشه كمعضلة سيكولوجية» فيحاول «شتاينر» أن يحلل التناقض الذي حلّ في حياة «نيتشه» بدءاً من أولى مراحل شبابه في عمر السابعة عشرة عندما كان مؤمناً صادقاً، ويكنّ للرب كُلَّ الحبّ والإخلاص، ثم انقلابه للإلحاد، بعدما باتت بالنسبة إليه «كل الأفكار حول الإلَه والخلود والحياة الأُخرى طفولية وإنكارها من البدهيات التي تنبع من غريزته الحقيقية».

ويبقى هذا الكتاب مع مقدمة المترجم «حسن صقر» المميزة محاولةً لفهم شخصية إشكالية تركت بصماتها على عصرها، وامتدّ تأثير تلك البصمات حتى عصرنا الحالي، إذ لاتزال أفكاره تثير عواصف من الجدل بين مؤيديه ومعارضيه، مع تأكيد الطرفين على أهمية تلك الأفكار وقوّتها في سياق التاريخ الفلسفي.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
خطاب الدجل والاستعراض بحث سبل تعزيز التعاون بين وزارة الصحة والتحالف العالمي للقاحات بنسبة 5%.. تخفيض أسعار الغزول القطنية للمرة الثانية هذا العام الطيران المروحي يشارك في إخماد حريق بين الحصن والحواش بريف حمص الغربي مصادر خاصة: اللقاء بين الرئيسين الأسد وبوتين حمل توافقاً تاماً حيال توصيف المخاطر والتوقعات والاحتمالات المقبلة وزارة الثقافة تمنح جائزة الدولة التقديرية لعام 2024 لكل من الأديبة كوليت خوري والفنان أسعد فضة والكاتب عطية مسوح الإبداع البشري ليس له حدود.. دراسة تكشف أن الإبداع يبدأ في المهد تضافر جهود الوحدات الشرطية في محافظة حماة يسهم في تأمين وسائط النقل للطلاب وإيصالهم إلى مراكز امتحاناتهم الرئيس الأسد يجري زيارة عمل إلى روسيا ويلتقي الرئيس بوتين بايدن - هاريس - ترامب على صف انتخابي واحد دعماً للكيان الإسرائيلي.. نتنياهو «يُعاين» وضعه أميركياً.. الحرب على غزة مستمرة و«عودة الرهائن» مازالت ضمن الوقت المستقطع