اقتصاد النيجر بين الاستغلال الفرنسي والتحرر الاقتصادي

تؤكد الكثير من الدراسات الاقتصادية أن فرنسا بدأت سياستها الاستعمارية في القارة الإفريقية منذ بداية القرن السادس عشر، وتقاسمت مع الدول الاستعمارية الأخرى مثل (بريطانيا وإيطاليا والبرتغال) وغيرها الثروات الإفريقية، وفرضت فرنسا سيطرتها على أكثر من /20/ دولة ومنها دولة ( النيجر)، وللأسف الشديد تطوع عدد من الكتاب والمفكرين لدعم هذا الاستعمار، فمثلا قال  الكاتب (فرانسوا رينارد) في تقرير نشرته صحيفة (نوفال أوبسرفاتور)  (Le Nouvel Observateur) الفرنسية: إن الأديب الفرنسي الشهير فيكتور هوغو (1802-1885) يعد -بلا شك- واحداً من أعظم الكتاب والمفكرين في التاريخ، وكان شاعراً وروائياً ذا شهرة في زمنه، لكنه كان يتبنى بعض الأحكام المسبقة والخاطئة التي كانت رائجة في ذلك القرن وأنه أظهر وجهه الاستعماري، وكان عضواً في مجلس الشيوخ الفرنسي، فقد خاطب الحكومة والشعب الفرنسي سنة /1897/  قائلا: “هيا أيها الناس، استولوا على هذه الأرض، احصلوا عليها، لمن تعود ملكيتها؟ إنها ليست ملكاً لأحد، اذهبوا واحصلوا على هذه الأرض لأجل الرب، إنه هو الذي يهب الأرض للناس، والرب أهدى إفريقيا لأوروبا”!، ومررت هذه الدول الاستعمارية نزعاتها العدوانية تحت مسميات متعددة (نشر الحضارة والثقافة والعمران والتحرر والتطوير وحقوق الأقليات  ومكافحة الإرهاب ….إلخ)،  واستمر الفكر الاستعماري وقال رئيس الحكومة الفرنسية (جورج كليمنصو) خلال الحرب العالمية الأولى ( 1914-1918): إن ( كل قطرة نفط تعادل قطرة دم) ، وها هي الإدارة الفرنسية حاليا تتطلع إلى احتلال القارة الإفريقية بشكل اقتصادي !، واستكمالا لما كتبته في المقالة السابقة بعنوان (الاقتصاد الإفريقي وتنافس الدول الكبرى وقمة بريكس القادمة؟) فإني سأخصص مقالتي الحالية عن الأطماع الاقتصادية الغربية بشكل عام والفرنسية بشكل خاص وتحديدا في دولة ( النيجر ) وبلغة الوقائع والأرقام ومن مصادر غربية وليست إفريقية أو سورية مع احترامي الكامل لهما، فالنيجر وعاصمتها ( نيامي ) هذه الدولة التي استقلت عن فرنسا سنة /1960/ وأطلق عليها هذا الاسم نسبة إلى نهر النيجر، وبلغ عدد سكانها لسنة /2023/ بحدود /27/ مليون نسمة ومساحتها أكثر من /1،2/ مليون كم2، وتقع في غرب إفريقيا، وهي من أفقر دول العالم رغم امتلاكها ثروات اقتصادية كبيرة، وتحولت هذه الثروات إلى نقمة وليس نعمة، فهي من الدول الخمس الأولى عالمياً من ناحية الاحتياطي من اليورانيوم (الكعكة الصفراء) وتمتلك أكثر من /5%/ من الاحتياطيات العالمية منه، وهو من أهم ساحات الصراع العالمية حالياً نظراً لأهميته في كل المجالات الاقتصادية، وهي رابع أغنى دولة في العالم من ناحية احتياطيات اليورانيوم، ولكن تسيطر على مواقع اليورانيوم الشركات الفرنسية لتأمين /25%/ لتوليد الكهرباء و/19%/ لتشعيل مفاعلاتها  النووية، ولهذا فإن الشركة النووية الفرنسية (أريفا AREVA) تستخدم معالجة موارد اليورانيوم في النيجر منذ أكثر من /50/ سنة، وبلغت صادراتها من اليورانيوم نسبة /5%/ من الصادرات العالمية وهي ثاني أكبر مصدر منه إلى دول الاتحاد الأوروبي بعد (كازاخستان) وبلغت صادراتها للاتحاد الأوروبي سنة /2022/ أكثر من /25%/ من إجمالي مستوردات الاتحاد علما أن النيجر ( بلد حبيس) أي لا منافذ بحرية له، وأغلب صادراته تمر عبر (بنين ونيجيريا)  المطلتين على خليج غينيا والمحيط الأطلسي، وتعد دولة النيجر من أهم دول العالم من ناحية احتياطي الذهب وتمتلك أكثر من /6%/ من الاحتياطيات العالمية وهي سادس منتج له في العالم، ومعروف الآن تسابق دول العالم لامتلاكه لأنه ملاذ آمن للاستثمار وخاصة في ظل صراع العملات الدولية وسيطرة حالة (عدم اليقين) الاقتصادية ولا سيما مع التراجع النسبي في التعامل بالدولار واليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني وزيادة التعامل بالروبل الروسي واليوان الصيني وتوسع مجموعتي البريكس وشنغهاي، وبلغت صادرات النيجر من  الذهب لسنة /2021 / أكثر من /2.7/ مليار دولار ،كما تمتلك النيجر احتياطيات كبيرة من (النفط) وتقدر بأكثر من /2/ مليار برميل لكنها للأسف الشديد لا تنتج وطنياً أكثر من /20/ ألف برميل يومياً لسنة 2023، ولديها  موارد أخرى مثل الفحم، خام الحديد، الفوسفات، القصدير، المولبدنم، الجبس، الملح، الزيت وغيرها، وتمتلك ثروة زراعية وخاصة ثروة حيوانية كبيرة. ويعتمد على الزراعة أكثر من /80%/ من السكان  ولكن بمردودية قليلة وغياب (التصنيع الزراعي) ومعاناة كبيرة في تأمين متطلبات العمل الزراعي من (مبيدات وأجهزة وتقنية وشركات تسويق …الخ)، كما تحتل موقعاً عالمياً مهماً من الناحية الجيوسياسية فعبر أراضيها يمر أكثر من /50%/ من مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء والذي يتوقع أن ينقل /30/ مليار م3 سنويا من نيجيريا إلى الجزائر ومنها إلى أوروبا.

وهو أطول خط في أفريقيا بحدود /2000/ كلم، إضافة إلى أنبوب آخر يمتد بين نيجيريا والمغرب ومن ثم أوروبا، ورغم امتلاك النيجر لهذه الثروات الكبيرة والهامة إلا أنها وحسب إحصائيات السنة الحالية فإن المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية تؤكد وعلى سبيل المثال وليس الحصر أنها من أفقر دول العالم وشعبها يعيش في فقر مدقع علما أنها أكثر دول العالم من ناحية معدل النمو السكاني والبالغ بحدود /4%/ تقريباً  وهذا يرتب أعباء مستقبلية كبيرة، ويعيش أكثر من /60%/ من سكانها تحت خط الفقر المدقع ومتوسط دخل الفرد فيها لا يزيد على /610/ دولارات، وهي في المرتبة /175/ بين دول العالم من حيث الناتج الفردي الخام (مؤشر الغنى والفقر) وكان ترتيبها/ 188/ دولة من /196/ عدد دول العالم وفقاً لمؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية لسنة /2015/ ، وما يزيد الأمور سوءاً أن  أكثر من / 80%/ من مساحتها صحراء قاحلة، وتعاني من تغير المناخ والفيضانات الفجائية والجراد الصحراوي الذي يأتي على محاصيل البلاد المحدودة، خاصة على ضفتي نهر النيجر، وبحيرة تشاد المهددة بالجفاف، ولا يحصل سوى أقل من /19%/ من السكان على الكهرباء، وأن /40%/ من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن /14/  سنة يعملون في المناجم، وبالمقابل فإن فرنسا تعتمد على اليورانيوم المستورد من النيجر بنسبة /25%/ لتوليد طاقتها الكهربائية وأكثر من /50%/ من طاقتها  النووية، كما تستورد معادن أخرى في غاية الأهمية لصناعتها، وتعتمد النيجر على الذهب واليورانيوم بشكل أساسي، حيث تتجاوز صادراتها من الذهب أكثر من /20%/ ، ويحتل تصدير اليورانيوم المرتبة الثانية بعد الذهب،  ومن هنا نتفهم الغضب  الغربي الأطلسي (وخاصة فرنسا) الكبير من التحركات السياسية الإفريقية بغض النظر عن موقفنا منها، وقد اعتادت على استغلال الثروات الإفريقية لتفعيل دورتها الاقتصادية، وهي تعرف أن دولة النيجر هامة في الصراع الدولي وخاصة مع التمدد الصيني والروسي والدعوة لإقامة مشاريع استثمارية على مبدأ ( رابح – رابح )، وليس على مبدأ الاستغلال حيث تقوم الشركات الغربية باستغلال هذه الموارد بأبخس الأسعار ومن ثم تصنيعها وإعادة تصديرها بأعلى الأسعار والاستفادة من الفارق بين سعر المادة الأولية والسلع والخدمات المصنعة منها أو ما نطلق عليه مصطلح (مقص الأسعار) الذي يقص لمصلحة الغرب على حساب إفريقيا وغيرها، وهذا ساهم في  زيادة التراكم الأولي لرأس المال الغربي والثروة  مما يذكرنا بتأكيد ( كارل ماركس 1818- 1883) حيث قال: “إنّ تراكم الثروة في قطب واحد من المجتمع هو في نفس الوقت تراكم الفقر والبؤس في القطب الآخر”، فهل انطلقت دولة النيجر لتمزق عباءة التخلف والتبعية للغرب من خلال وعي فقرها الناجم عن استعمارها واستغلال مواردها المتاحة والكامنة؟

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار