في محاولته العبور إلى المستقبل.. «نبيل صالح» يسخرُ من الأخطاء بدلاً من إطلاق النار على الخطّائين

تشرين- علي الرّاعي:

يبدو نبيل صالح في شغله على كتابه (تحرير العقل العربي والعبور نحو المستقبل) – دار الشعب توزيع دار التكوين-، أقرب إلى شغل الموسوعات، وليس هذا جديداً على الكاتب صالح، فقد سبق أن أصدر عدة كتب موسوعية، ربما كان أشهرها: (رواية اسمها سورية، ونساء سورية..)، وإذا كان في عدد من موسوعاته السابقة اشتغل فيها مُحرراً ومشرفاً، غير أنه في كتابه الأحدث (تحرير العقل العربي والعبور نحو المستقبل)، يقوم بكامله على جهده الفردي باحثاً ومُحللاً، ومحاولاً وضع النقاط على الحروف، فيما يُشبه (المراجعات) كما وسمها لقرنٍ كاملٍ على التفكير العربي، واستنقاع الذهنية العربية عند ثوابت عجزت عن تجاوزها.. هي مراجعات بعدد الأخطاء، ومن هنا هي لا تنتهي ما دمنا نُراكم أخطاءنا، مع أنّ علاجنا يكون في معرفتنا لها، ومعرفة أضرارها علينا إذ إن «العقل يُحررنا من النقل، والعلمانية هي الطريق نحو ذلك، علمانية مشرقية تُناسب مجتمعاتنا المحافظة..». ساعياً في هذه المراجعات إلى البحث في تاريخ أخطائنا القومية والسياسية والاقتصادية، كما ويُحلل من خلالها خطابنا الوطني على امتداد الأراضي الناطقة بالعربية..

عناوين كثيرة وعديدة سيراوغ فيها نبيل صالح حضرة (الرقيب)، ويُخاتله، ويُواربه أيضاً، حيث تمر الفكرة قابلةً للتأويل والإتمام من قبل قارئ يتوجه إليه، وهو مفعم بالثقة والاطمئنان لوصول (الرسالة) إلى مرافئها الآمنة، من خلال كتابٍ قاربت صفحاته الخمسمئة صفحة، وبعناوين تمدُّ لك بلسانها أحياناً، وطوراً تلوّح لك بيديها، لكنها تشترك في أنها صادمة، ولها وقعها الخاص الذي ليس أقله وقع إلقاء حصى في مستنقعٍ راكدٍ وربما آسن، أو كطعمِ حامضٍ في الحلق تارةً، وتارةً أخرى بكامل المرارة..

عناوين تأتي كمبضع جراحٍ عرف تماماً أين تقع الكتل السرطانية في جسد (الرجل المريض) كـ:«أمراضنا العثمانية، واستعصاء الحداثة العربية، ما بعد العلمانية، أثر الذئاب: في عشرية الدم الجزائري إلى عشرية الخراب السوري، مكافحة «المتحوّر السلفي» وحماية المواطنين من خطر التكفريين، ماذا بعد الشتاء العربي الطويل.. وغيرها الكثير»، كانت عدّة نبيل صالح في طرحها، بطريقة لافتة، لا تقل عن صدمة العناوين دهشةً، عندما وظف (الرشاقة) والتكثيف في صياغة السرد، ذلك السرد الذي يأخذ حنو الحكاية لكنه المفعم بالتهكم والسخرية.. وهو ما يدفع بالقارئ لأن يبحر في يمِّ الـ(500) صفحة من دون خشية ملل أو تعب.. فقد كان سرد فصول الكتاب أشبه بحلقات مسلسل ميزتها الاتصال والانفصال معاً، حتى في الفصل الواحد، بمعنى يُمكن للقارئ أن يقرأ الكتاب كما هو متسلسل، وبإمكانه اختيار الفصل الذي يجذبه ويقرؤه منفصلاً، وهذه التقنية لجأ إليها صالح حتى في الفصل الواحد عندما سرده «تفقيراً» أي من خلال فقرات مرقمة، هي الأخرى يُمكن أخذها من سياقها وقراءتها وحدها، أو قراءتها متكاملة ودفعةً واحدة، ثم بعد كل ذلك يسردُ كل ما تقدم بشيءٍ من التهكم والسخرية اللاذعة كإبرة في العضل، وهو الأمر الذي أبعد جفاف تأريخ المراجعات وتسجيليتها إلى المقاربة مع النصوص الإبداعية..

لأنّ أفضل طريقة لإصلاح العالم – على ما يرى صالح – هي السخرية من أخطائه، بدلاً من إطلاق النار على الخطائين، وهي تأتي سخريةً فلسفية وتاريخية، تُخاطب الإنسان كـ«حيوان» ناطق ومتديّن ومحافظ، ويخشى التجديد.. حيث في مراجعاته هذه يُعيد نبيل صالح طرح السؤال العتيد الذي لا يُمل من طرحه منذ ما سُمي يوماً عصر النهضة: لماذا تقدموا هم، وبقينا ،نحن، مُتخلفين، غير أنّ صالح هنا لا يترك السؤال مُعلقاً من دون إجابة، وفي الإجابة يتوغل في غابات العرب ومجاهلهم كاشفاً عن كل المعوقات التي كانت سبباً في الضياع في الرمال المتحركة، والتي كثفها على أبعد ما يكون التكثيف وفي رأي المفكر محمد أركون، فعلى العرب والمسلمين البحث عن الإجابات لأسئلتهم خارج التراث الغارقين في متاهاته، لأنّ الحل خارج هذا التراث وبكل أنواعه.. وحسبما ينقل عن المفكر محمد عابد الجابري؛ فإنّ ثلاثة أمور حكمت العقل السياسي العربي في الماضي، وهي: القبيلة، والغنيمة، والعقيدة، ويرى أنها مازالت تحكمه في الوقت الحاضر.. لكن هل معنى ذلك الاستحالة المطلقة لـ«الزحزحة»؟! في الإجابة يجد الباحث عشرات السبل لتحرير العقل العربي، مع إمكانية انعتاقه، وفرصة إقامة قطيعة ثقافية مع ماضٍ ليس تليداً أبداً، ، وهو ما نجد بشائره في تحقيق العروبة في جانبها الثقافي، وإن كانت فشلت في جوانبها الأخرى، ولاسيما سياسياً.. ولعلَّ أهم ما يُمكن تصفية الحساب معه في تركات هذا الماضي، هو التركة العثمانية البغيضة.

والبداية للعبور صوب المستقبل يجب أن تكون في اعترافنا بأننا فشلنا في بعض المفاصل الوطنية المصيرية، كما فشلنا في تكريس المواطنة وتوزيع العدالة خلال قرنٍ مضى، وأنّ عدم تنظيف ثقافتنا الوطنية من بقايا الاستبداد والتخلف العثماني والأفكار السلفية وتغييب المرأة قد ساهم في وصول البلاد العربية إلى ما هي عليه الآن، فـ«السلف إلى زوال والمقبرة شاهدة على ذلك»، ومن ثمّ تفويت أي استثمار خارجي بمكونات البلاد العربية من دون تجاذبات الأكثرية والأقلية، لأنّ السياسة تقول إنّ المواطن هو الأكثرية، ولا أمل إلا بذلك، لأن «الحليف سيشربك والعدو سيأكلك»، ومن ثمّ ليس لك إلا مَن يجاورك، ويتعايش معك في الوطن الذي تحملون جنسيته معاً، والقاعدة تقول: إنّ آخر سنوات الحرب أسوأ من بداياتها.

وإذا ما أخذنا سورية – على سبيل المثال- فتبدو أشبه برحم استقبل كل حيوانات الغزاة والتجار والطامحين المنوية، كرهاً أو حبّاً، لينتج لنا هذا الكائن الخليط من كل شيفرات الأمم وثقافتها ودياناتها، وأشكالها: أكاديون، آشوريون، عموريون، حوريون، ميتانيون، مصريون، كلدان، وأخمينيون، فيونان، وعرب، ومسلمون أمويون وعباسيون، ثمّ مغول ومماليك فعثمانيون إلى أن جاء الفرنسيون حاملين معهم ثقافة المواطنة التي علينا زراعتها في دساتيرنا، فهذا التزاوج القسري التاريخي بين سورية وغزاتها خلف ألغاماً ثقافية ما فتئت تنفجر فينا من دون أن يفهم الناس خلفياتها التي شكلتّها.

يذكر الباحث: يؤرخ الأوروبيون لنهضتهم بالإصلاح الديني مع الراهب الألماني مارتن لوثر، ولحداثتهم مع اختراع غونتبرغ للطباعة سنة 1798.. كما يؤرخ العرب لنهضتهم مع الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، وإدخال المطبعة مع أربعين عالماً من كلِّ الاختصاصات، غير أنّ الحداثة الأوروبية انطلقت فعلياً عبر صياغة مناهج جديدة للبحث الفلسفي على يد: هوبز، وديكارت، واسبينوزا، وبيكون، وغيرهم.. بينما لم يتوفر للحداثة العربية فلاسفة عرب، وإنما حمل الشعراء والروائيون والمسرحيون والصحفيون لواء الحداثة الاجتماعية، فكانت حداثتهم ذات صبغةٍ فنية وعاطفية أكثر منها فكرية إلا باستثناءاتٍ قليلة، أما رجال الدين المتنورون الذين نادوا بإعلاء شأن العقل والإصلاح الديني، فقد وقفوا عند حدود الدعوة وتهيبوا الإيغال فيها ومواجهة المجتمع التقليدي، بعد الذي حصل مع الشيخ علي عبد الرازق..

وأخيراً نختم مع مقولة نيتشه: «الأفعى التي تفشل في التخلي عن جلدها تموت..»

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
إصابة مدنيين اثنين جراء عدوان إسرائيلي استهدف منطقة القصير بريف حمص (وثيقة وطن) تكرم الفائزين بجوائز مسابقة "هذه حكايتي" لعام 2024..  د. شعبان: هدفنا الوصول لحكايا الناس وأرشفة القصص بذاكرة تحمل وطناً بأكمله معلا يتفقد أعمال تنفيذ ملعب البانوراما في درعا ويقترح تأجيل الافتتاح بسبب تأثر المواد اللاصقة بالأمطار الوزير الخطيب: القانون رقم 30 يهدف إلى حماية بنية الاتصالات من التعديات الوزير صباغ: إمعان الاحتلال في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني يعبر عن سياسات إرهابية متجذرة لديه سورية تترأس اجتماع الدورة السادسة للمجلس العربي للسكان والتنمية في القاهرة الجلالي يبحث مع أعضاء المجلس الأعلى للرقابة المالية صعوبات العمل ووضع حد لأي تجاوزات قد تحدث طلاب المعهد الصناعي الأول بدمشق يركّبون منظومة الطاقة الشمسية لمديرية التعليم المهني والتقني أجواء الحسكة.. عجاج فأمطار الأضرار طفيفة والمؤسسات الصحية بجهوزية تامة لمعالجة تداعيات العجاج انطلاق فعاليات أيام الثقافة السورية في حلب بمعرض للكتاب يضم ألف عنوان