فلسفة التفاهة.. في العودة إلى فهم العالم وتفسيره
تشرين – ادريس هاني:
صحيح أن مهمة الفلسفة هي تغيير العالم لا تفسيره، إلا أنها تعبير عن مرحلة تقتضي أن يتحقق معها فهم العالم وتفسيره. المقولة الماركسية الأثيرة ارتكزت على اللحظة الهيغلية التي الْتَأمت فيها الثنائية القاتلة بين العقل والواقع برسم الروح المطلق، والتي ارتأى الفيورباخيون المنضوون فيما تحت يافطة اليسار الهيغلي، أنهم بلغوا كمال الهيغلية نفسها عبر تأويل اقتضى أولوية الجدل الطبيعي والتاريخي المهيمن على الروح المطلق نفسه.
هل اكتملت حقّاً مهمّة فهم العالم وتفسيره؟
إنّها المهمّة التي لا تنتهي، حتى لو كانت عملية تغيير العالم تعبيراً عن مراحل هذا الوعي نفسه. فتفسير العالم هو سردية مرحلية توفّر مقولات تغيير العالم بالقدر الذي يتحقق معه «الروح المطلق» الهيغلي نفسه.
تشكّلت كبرى نظريات الفكر والعقل في سياق الحروب الكبرى والثورات العظمى في التاريخ الحديث. لم يخفِ المخاض التاريخي عبقرية التفكير الإنساني، لم تبتلع البنية حرية الفرد. في عصر سبق التقنية والذكاء الصناعي، سافر فرسان التفكير في قارات ذهنية وجابوا الكون النظري، حتى أنّه ما عاد في مقدور الذكاءين الطبيعي والصناعي تجاوز تلك المنعطفات الكبرى في تاريخ الفكر الحديث، بعد أن تكرست في خوارزميات خالدة.
بين العقل والواقع، المسافة التي تبدو قصيرة، هي قصّة تاريخ الأفكار. وعليه، وبما أن المسافة لم تندك بينهما، والتفسير لم ينهِ مهمّته، فإن فهم العالم وتفسيره هو ما يَرهن مصير وصورة تغيير العالم.
نسمّيه عصر التفاهة، نظراً لتراجع الأفكار الكبرى، وانحسار إنتاج المفاهيم، والولغ في مخرجات الوعي الشّقي، وهو ما جرّأ الدهماء على احتلال الخطاب ووسائطه وأدواته. فالعصر لم يعد اليوم يستشعر الحاجة إلى فهم العالم وتفسيره، ولا حتى إلى تغييره بعد أن استقال العقل والحساسية. ولكن أليس في مقدرة العقل في محض حدوده – كانطياً – والحساسية في مُدرك تحقق الفكرة في ذروة تاريخ الفن – هيغلياً – أقول هيغلياً حيث جدل الفن في مظهره الرومانسي يفوق مظهره في العصر الكلاسيكي، وذلك بتعبير الحكمة المتعالية هو الكمال الذي يستدعي انطواءه على كلّ الأشياء بما فيها النقائض، وهو ما يضفي النهاية على الفن نفسه بالمفهوم الهيغلي، كناية على ذروة الكمال والجمال. بهذا كله، ألا يمنحك عصر التّفاهة إمكانية جديدة لاقتناص جمالية مشهد أشبه بقطيع فئران تخرج من جحورها وتتجه إلى البحر؟.. جمالية مخاض تناقضي للعالم، يقتنص لحظة التركيب الأعظم، حيث التفاهة تشبه سرب الجرذان التي تتجه نحو البحر. فهي في حالة هرولة وسباق مع التّاريخ. لقد بلغت التفاهة ذروة تعبيرها عن الشّر المطلق، وهي اليوم في مقارعة هذا الجدل السائل نحو انقراضها الوشيك، الانقراض الذي لن تنفع معه وسائل التأثير التي تداعب عقول المارة على قارعة طريق الجهل والتسطيح.
التفاهة المشخصة عبارة عن منحوتة موحية، نستطيع تشخيصها في الذروة في قصيدة شعر ومقطع موسيقى يجسد الفكرة الطاردة للتفاهة نفسها، تصبح التفاهة خادمة للتاريخ من حيث لا تدري، وهي بقدر تشخّصها تمنح الجمال معنى متدفّقا في الوجود، الوعي بالوجود الذي يجعلنا أقدر على استعاب العدم. هذا التدفق الأعظم للتفاهة خير معين لإدراك معنى العدم. تظهر التفاهة لتفرغ تجربة الوجود الإنساني من رواسب العدم واختراقاته.
تعاني التفاهة من رُهاب مزمن، فهي تستغل التطور الأعظم للعالم، لتلعب خارج «الكاطيغورياس» وطبيعي أن يكون للتفاهة طلائعها ورموزها، فهي حدث تاريخي على كلّ حال، لكنها واقعة في صيرورة التطور الذي سيسحق التفاهة لأوّل علامة على تحقق الولادة الجديدة للعالم.
قدر التفاهة أن تهرول، أو تعتمد وسائل الفرجة.. أن تصدّر نفسها بتقنية ذروة الكذب لعصرنا كما وصفتها أرندت. لا يمكن للتفاهة أن تتوارى في صومعة صناعة الفكر، بل إنّ حضورها الذي يعزز فكرة هيدغر عن الوجود المزيف، هو حتمية. فالتفاهة تقاوم من أجل البقاء، وإن كان القدر الوجودي يتهددها بالسحق المنظور.
تقتضي شمولية التفاهة حضورها في كلّ الحقول، وهي تخفي غباءها التّاريخي في فعل «البرققة» اليومي والتعنتر الافتراضي. وطبعاً بما أننا تجاوزنا عصر الفرسان، حين كانت الفكرة تلتئم بالفروسية، وحين كان جنود التّفاهة محكوماً عليهم بالتواري خلف التين الشوكي، فإنّ الزمن الذهبي للتفاهة اليوم، فرصة تحميها قواعد الاشتباك، ولكنه عصر لا يمنحها أملاً أكبر من داء الطاعون والمسغبات التاريخية.
الفارق بين التفاهة والخنفوش (الخفاش) هو جرأة التفاهة أن تظهر تحت الأضواء الساطعة، أن تنزوي على كلّ منبر، وأن تسمع لها في كلّ صيحة خفخفة. ولكنها تأخذ من طبع الصرصور(سارق الزيت) ما تُخادع به عدوها، أي بالتوقف عن الحركة، حيلة واحدة لا تنفع.
يصعب إذاً تحديد حجم الغباء للتّفاهة وروادها، لا سيما وأنّها لا تكترث لحجم تناقضاتها، لأنّها تدرك أنّ التّاريخ يخلّد المجد ويمحق التّفاهة. للتفاهة فرصة واحدة مهما امتدت، ولكن مكر التّاريخ عُقاب يلاحقها بجدله المتواري في شبكة من التعقيد أنّى لأبي جهل أن يدرك مداخلها ومخارجها.
بلى، مازلنا في حاجة إلى فهم العالم وتفسيره.
كاتب من المغرب